محمد صابر عبيد
لا يمكن أن يكون الفيلسوف فيلسوفاً من دون أن تكون له موهبة "التفلسف" التي يعبّر فيها عن قدرته النوعيّة في إنتاج الفلسفة، بوساطة الكلام القادر على الصوغ والتعبير والتدليل العابر لأفق المعنى والمتسلح بقدرةٍ ما على الإفهام، حتى يتمّ التفريق بينه فيلسوفاً وبين معلم الفلسفة وهو يعرض النظريات والمدارس والأفكار والقيم والأطروحات الفلسفيّة بمعرفة علميّة وتاريخيّة متقنة، وفكرة التفلسف في هذا السياق هي إمكانيّة اللعب باللغة بطريقة جديدة ومختلفة ومنتجة ومغايرة للغاية، تنتهي إلى رؤية أخرى للفيلسوف يدرك بها ما لا يدرك لدى غيره، عابراً من فوق كل الكلام الذي عرفه ومرّ به سابقاً نحو كلام آخر مختلف ومغاير.
كلامُ التفلسفِ هو كلام مشحوذٌ ببراعةٍ وتشظٍّ وديمومةٍ وقفزٍ من فوق المعاني البسيطة المجرّدة نحو المعاني الكبرى المأخوذة بجدّتها، وحداثة صورتها، وقوّة تدليلها، وتشظّي معانيها، وتعدّد مستوياتها، حتّى قد تبدو لغير العارف وكأنّها مجرّد لعب لغويّ عبثيّ لا يُنتِجُ شيئاً، لأنّ تلقّي مثل هذا الكلام يحتاج إلى وعي في معرفة أسرار اللغة وأسرار التعبير والتشكيل، وبمجموع النصوص التي تنتجها حركة التفلسف تتكوّن نظرية خاصّة للفيلسوف في الحياة والكون والأشياء، بحيث تكون له فلسفته النوعيّة القائمة على منهج ورؤية وأسلوب وطريقة كلام وتعبير تؤلّف جوهر النظرية وتستجيب لمقتضياتها.
قد يقترب فعل التفلسف وقوله على صعيد إنتاج الكلام الفلسفيّ من الأداء نفسه الذي يقوم به المتصوّف في إنتاج معرفته الصوفيّة الخاصّة، حين ينتج كلاماً صوفياً صافياً يدخل في صميم التجربة الصوفيّة وتجلّياتها الكلاميّة المختلفة، على النحو الذي حدا ببعضهم في أزمنة تاريخيّة كثيرة إلى إدراج كلام المتصوّفة في نطاق التجديف والكفر والزندقة وغيرها، استناداً إلى أيديولوجيّات دينيّة قصيرة النظر تنطوي على أجندات لا علاقة لها بجوهر الدين وفضائه المفتوح والخصب، في حين هو كلام يوازي كلام الفلاسفة في قدرتهم على التفلسف ضمن حالة تضمن القدرة على إنتاج ما يمكن أن يكون جوهر الفلسفة وزبدتها الكلاميّة، والانتقال الحرّ البليغ من مجال العقيدة إلى مجال الحقيقة.
الناقد الأدبيّ على هذا المستوى إنّما هو شكل معيّن من أشكال الفيلسوف والمتصوّف في هذا المضمار التشكيليّ النوعيّ البالغ الخصوصيّة، ينبغي عليه أن يتحرّك كلامياً في سياق مغاير يكشف عن طاقته النقديّة المتفرّدة الخالية تماماً من الزوائد والثرثرة والتهريج والادّعاء والفبركة، كي يتمتّع بخصوصيّته الإنتاجيّة لكلامٍ نقديّ يدخل في صلب العمليّة النقديّة القادرة على تخصيب الفعل النقديّ في مجال الصوغ اللغويّ.
سيكون الناقد في هذا السبيل بعيداً جداً عن معلّم النقد الذي بوسعه أن يُجْمِل نظريات المعرفة النقديّة بتاريخها ومنطلقاتها ومناهجها وأبعادها وحيثياتها، معلّم النقد الذي يتحدّث بلغة تاريخية وتفصيلية يشترك بها معلمو النقد كلّهم بوصفهم يعملون على منضدة واحدة مشتركة، في حين لكلّ ناقد منضدته الخاصّة التي لا يعمل عليها سواه، أو لا يتمكّن من العمل عليها غيره، ولا بدّ لمساحة هذه المنضدة أن تمتلئ بالحرية الكافية بعيداً عن المرجعيات المنهجيّة والنظريّة، فالنظريات والمناهج تزوّد الناقد بالذخيرة المعرفية والأدوات والآليّات والتقانات، ولا يمكن أن تساعده في الممارسة النقدية الإجرائيّة إن لم يكن ناقداً أصلاً.
يمثّل معلّم النقد حاجة ضروريّة كبرى في الميدان المدرسيّ الأكاديميّ فهو المصدر الوحيد للتزوّد بالمعرفة النقديّة على نحو منهجيّ ومعرفيّ صحيح وأصيل، وهو لا بدّ منه في الفضاء النقديّ العام إذ يقوم بعمليّة نقل الجهد النظريّ النقديّ للآخر إلى الميدان النقديّ بوصفه درساً أكاديمياً، وهو من يوطّد الصلة المطلوبة بين منطقة النقد الإجرائيّ ومنطقة النقد النظريّ ويجعلها قابلة للتفاعل، بمعنى أنّه العتبة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها لمعرفة أصول النقد ومقولاته، كي يوفّر للناقد ظهيراً نظرياً ضرورياً لعمله الإجرائيّ على الظواهر والنصوص، فله دور تاريخيّ في تاريخ العمليّة النقديّة لا يقلّ أهميّة وخطورة عن دور الناقد.
ويجب أن تبقى المسافة ظاهرة وواضحة وفاصلة بين معلّم النقد والناقد بحيث لا تتداخل؛ كي ينجح كلّ منهما في أداء دوره على أكفأ صورة، فلا يصلح معلّم النقد للقيام بدور الناقد إذا ما حاول ذلك لأنّه سيُربكُ الأداءَ التخصّصيّ ويخلط بين منطقة التاريخ ومنطقة الممارسة الفعليّة، فثّمة فرق كبير بين العقل العلميّ التاريخيّ المعلوماتيّ لمعلّم النقد، والعقل المنهجيّ الإبداعيّ النقديّ للناقد، بحيث يصعب حصول تداخل بينهما يمكن أن يضيّع المَشيَتَين –كما يقولون-، ولا بدّ لكلّ منهما أن يعرف المساحة التي يعمل عليها ويعيها بدقّةٍ ومعرفةٍ، وإهمال الإغراءِ الذي قد يتعرّض له أحدهما للخوض في مساحة عمل الآخر.
يستطيع معلّم النقد الحديث ساعات عن النظريات والمناهج والإجراءات بمعرفة واعية ومدرِكة، ويعطي معلومات غزيرة ذات طبيعة علميّة حول شوؤن النقد وشجونه تاريخاً ومقولاتٍ لكنّه ليس بوسعه أن يتفلسف نقدياً داخل حدود الممارسة النقديّة الإجرائيّة ولو للحظات، فالتفلسف النقديّ يخضع لموهبة وقدرة واستعداد ورؤية وحساسيّة ومزاج لا يتوفّر عليه معلّم النقد، لذا فإنّ الاكتفاء بالدور التعليميّ الكبير يوفّر له قدراً كبيراً من الاحترام يستحقه ويضمن له موقعَهُ في تاريخ العمليّة النقديّة العامة.