ولادة عقيمة

ثقافة 2020/11/10
...

جنان الهلالي
قبل بزوغ الفجر بوقتٍ قصير صدحت الصالة بصرخاتي، كطاووس ثائر، بعد تحريري من رحم أمي متذمراً أتنفس هواء صالة الولادة المملوءة بالديتول، حصلت الممرضة على مبلغٍ مغرٍ من المال للبشارة. كم تمنيت أن أهين تلك السيدة التي تستجدي المال من الام الاخرين. لم تكن تعلم أني المولود الذكر الأول للأسرة، وكانت الولادة عقيمة؛ إذ لم أكن كباقي الأAولاد، جسدي يخفى عيباً، أجادت الممرضة إخفاءه بلفافة القماط.
 
 
كانت الأضلاع المتلاصقة تؤلمني حد النخاع، لم يشعر أحدٌ بي غير العضو الخافق داخل صدر أمي. بعد ساعة من الاختناق في حضن الجدة، كنت فيها أسمع نبضات قلبها وهي تَسرُ فرحة التباهي بي: "سأعود وأخبر جاراتي اليوم رُزِقنا ذكراً، لطالما كن يلحقن بي العار من خلفت البنات. أشفقت على حال تلك الخمسينية، وأظن قتلتُ فرحتها. عند عتبة البيت ذُبحت على قدم أمي السعادة أعجبني سكنّي الجديد حتى وإنْ كان أكبر حجماً من رحم أمي الدافئ، وأنا أراقب كلمات الأسرة الواحد تلو الآخر بعينين غائرتين تتوجس خيفةَ افتضاح السر الذي تخفيه اللفافة، كل منهم يصفني بما يُحبّ، آخر وصف أطلقته شقيقتي الصغيرة، ذو الرأس الكبير، إلا أمي كانت تتحاشى الحديث، متعبة من الولادة. أخيراً سادَ الهدوء، شيء من الطمأنينة أراح جوارحي وأنا ألتهم أول رضعة بشراهة، تحركت أمعائي بطريقة لم تُرض أمّي، أسرعت تفتح اللفافات حتى تنظف قضاء حاجتي، كنت أخشى أنْ يفتضح سري؛ لا أريد أنْ أعذب قلبها الملائكي أنغص فرحتها، أن أصدم أبي، جدتي، لماذا مقدر أنْ تكون ولادتي سبب نكد هذه الأسرة، سأغمض عيني كي لا أرى صدمة العوق في 
عينيها. 
شهقة ارتعدت لها أوصالي، انكمش رحم أمي حزناً، شجار أبي ولوم أمي؛ خوفاً من أنها تناولت عقاراً بالخطأ في فترة الحمل. فجأة عم الصمت، إنها تنظف الفتحة الولادية في ظهري، دموعها تتساقط كالقطران على لحمي الرقيق. تراخت أوصالها، غشاها النوم، بعد أن خيم الصمت والحزن في حجرتها الصغيرة. نمت أنا كجرذ صغير خجلاً منها، احتضنتني بشدة أكبر. وعدها والدي المتذمر أنه سيزور الطبيب باكراً، حتى أنه لم يخلع بزته العسكرية بعد عودته من البصرة إبان الحرب الإيرانية العراقية. نبأ زيارتي المفاجئة جعلته يحضر على عجالة، ليشهد قدوم ذكر لطالمّا انتظرته الأسرة المقرون اسمها بكثرة إنجاب البنات. كان الطبيبُ مشفقاً عليهما، وهو يزعجُني بحركةِ يديهِ المستفزة على رأسي، سألهُما: ألم تسمياه بعد. تلعثَمتْ والدتي نظرتْ إلى أبي الذي لم يهتم، ثم قالت، لا، - أسميه أحمد إذن. رمقهما بنظرةٍ فاحصةٍ وأكمل: "هذا يرادله سيارة حمل فلوس" أنا أرى الموت أرحم لا تجرون له عملية، إذا غلقنا فتحة الظهر يرتفع الماء إلى رأسه ويصاب بالعمى ثم يصاب بالصرع،.و.. سحبتني أميّ بقوة. صَرختُ باكياً بعد أنْ ضمتني بشدة؛ ولكن هذه المرة ليس من ألم أضلاعي بل من الألم الذي حل با أمي المسكينة، كيف تتحمل رأسي وهو يكبر، ويكبر كبالون ثم ينفجر أمام عينيها، سمعتُ جدتّي تقول، "المؤمن مبتلى" ولكن كيف لقلب رقيق كقلب أمي أنْ تتحمل تلك المُعاناة، الجَميع يحملها ذنب العَوق. 
أصبحتُ أنا نَكرة مجرد كومة لحم تحتاج إلى مبالغٍ نقدية طائلة وعمليات صعبة. عاد أبي إلى جبهة القتالِ حتّى أنه لم يودعني بقبلة. شرط على أميّ لو كانت قررتْ الاحتفاظ بي أنْ تتحمّلَ هي المسؤوليّة. بعد تسعة أشهر من المعاناة بدأ رأسي يكبر حتى أصبح كبالون أعياد الميلاد، أنظر إلى تحديق الأقارب والأطفال وهم ينفرون من شكلي. حتى قررت والدتي إجراء العمليّة كان عليها السفر إلى بغداد تحديداً مستشفى الجملة العصبيّة، بعد شَهر من الانتظار وهي تُعاني من إهمال الطبيب وتأخيره للعمليّة أخبرتها مرافقة أحد المرضى أنَّ الطبيب ليجري عملية بتلك الصعوبة يأخذ رزمة من الأموال رشوة والبعض يجهزون له حفلة راقصة قبل موعد العملية. فهل تصرف الدولة أموالاً على كتلة لحم بعينين غائرتين لا فائدة منها. وتترك إصابات جبهات القتال. ذلك الطبيب الفاجر من الحزب المتسلط في الثمانينيات، يختارهم النظام قساة القلب الفقير لا حول له ولا قوة في ما وقع بين أيديهم. 
ماذا كانت أمي ذات العشرين عاماً أن تفعل شيئاً أمام جبروت الطغاة. في صباح ذلك اليوم البارد، حملتني أمي وهي تسير في ممر المشفى تدخل ردهة تلو الأخرى وهي تبحث عن إحدى الممرضات لتزودها ببعض الماء الساخن، بعد أنْ جف حليب صدرها من الجوع، فلم تكن حصتها من الطعام سوى وجبة واحدة من الأرز ومرق الفاصولياء. دخلنا الردهة الأولى الثانية وحتى الخامسة كلها نفس المرض "استسقاء الرأس" تشوه في الجمجمة. وقع نظري على فتاة جميلة تصغرُني بشهر لا أنكر أنها أعجبتني تبسمت لها مستصغراً رأسها الذي كان يكبُرُ رأسي بعض الشيء. وعاجلاً عرضت والدتُها الخطبة على أمي فقالت سأزوجها من رأس البسطال هذا. لقد حقرتني، حمدت الله أنها لم تكن حماتي في المستقبل البعيد. ابتسامة أمي أزاحت عني الغضب. في طريق العودة إلى الردهة التقينا بالطبيب الذي يجري لي العملية وهو يُداعب خدي الرقيق مُتباهياً أمام وفد حقوق الإنسان نظر إلى المرأة الشقراء على يمينه قائلاً: هذا شسمه الحلو حضريه للعملية، أنا بالمعتاد ما أجري عملية خسرانه كهذه بس شكله عجبني. لا أعرف بعض الأقدار هي من تحرك الأشخاص باتجاهك. ولكن تمنى أنْ تكون في صالحك. 
بعد ساعتين من إجراء العملية وابتهالات أمي إلى الله، عدتُ لحضنها عرياناً هزيلاً بعد أنْ ثقب الطبيب ثلاثة ثقوب ليدخل صماماً صناعياً من أعلى رأسي حتى المثانة، وكنت أظن أنها النهاية. ولكنها كانت البداية لتحتضن تلك الأم معاقاً عاش لقرابة الثلاثين عاما لا يجيد سوى الأكل والصراخ بعد أنْ عاث المرض بعقله. عشت طريح الفراش أقضي الليل صاحياً، أنام النهار بعد أنْ يضنيني السهر. أراقبها بصمتٍ أرغب بقول: ماما إنني أحبك. عقلي لا يعرف لغة الحبّ. لساني لا ينطق. كنت سمعت ذلك الطبيب القاسي في صالة العمليات يقول، هذا الكائن لا يعيش سوى سبع سنين لو قدر الله له ذلك.. ها هو عامي الواحد والثلاثون يقترب ولم أخضع لعمليات أخرى بسبب توسل أمي إلى الله لم تصرف الأموال الطائلة على علاجي كانت المعجزة أنَّ الصمام بدأ يعمل بكفاءة عالية ولم أحتج تبديل الصمام في ما بعد. ولكن جسمي المعاق وعقلي الطفولي هو كل ما تبقى مني. عضامي تتشوه تدريجياً وعضامُها نخرة من حملي ومداراتي، كنت أتمنى أنْ أصف مدى ألمي عليها وأدافع عن اتهامها؛ أنها السبب بولادة معاق.
في نهاية العام الواحد والثلاثين التقينا أنا ووالدتي وأبي ذلك الطبيب الذي أجرى العملية لي، كانت صدمته كبيرة قال مازحاً: هذا لسه عايش، سبحان الله كان من المقرر أنْ يموت قبل ثلاثة وعشرين عاماً. كل الرداهات في المستشفى المشابهة لحالته فارقوا الحياة ولم تتجاوز أعمارهم سبع سنوات، إنها معجزة حقاً. سأله أبي، هل توجد الآن حالات مشابهة لحالة أحمد؟. لمم شفتيه نافياً: لا، لقد كانت تلك الحالات بسبب السلاح الكيمياوي الذي استخدم في الحرب وأثر في جينات أغلبية الجنود وأنت واحدٌ منهم.