ثـقــافــــة المَحْو

ثقافة 2020/11/10
...

د.أحمد الزبيدي

 
حين تفتق النقد الثقافي في النقد العربي الحديث توجهت أنظاره إلى فضح الأنساق المضمرة في الشعر العربي؛ ومنها ظاهرتا الفحولة والشفاهية بوصفهما من الظواهر الثقافية البدوية المتسربة إلى ثقافتنا المعاصرة المدنية! 
فراجع النقاد  آراءهم التبجيلية الجمالية والبلاغية المصفقة للشاعر وظهرت الخطابات الهجائية للشاعر الحداثي ذي النسق القبلي، ونصبت الشباك لأهم الشعراء والأسماء الراسخة في الريادة الشعرية العربية وما بعدها، وبعد أن اكتملت رحلة الصيد الحديث توجهت الشباك نحو التقاط الأنساق حتى عند وليد الشعر وحديث عهده، وهذه حال الشعر فهو المتهم الأول بالغنائية والعلاقة الحميمية مع السلطة، ولكن هل الشاعر وحده من تسربت له الفحولة ونزّت أرضه بالمياه البدوية؟! ألا نجد عند  بعض (نقاد الحداثة) تلك الترسبات، بل نجدها تلوح في جبينه المبدوغ بالقبلية، ويجهر بها أسلوبه، وصحيح أن الدراسة الثقافية بحاجة إلى أدلة مادية نصية للمعاينة النقدية ولكن غياب الدليل لا يعني غياب
 الظاهرة.
 تشيع في أوساطنا الثقافية ظاهرة (الشفاهية)  في المحاضرات أو الندوات أو المؤتمرات فيقدم ( الناقد ) الحداثي محاضرة ويطرح آراءه في ديوان شعري أو كتاب نقدي أو ظاهرة جمالية أو ثقافية، وبعد أن ينجز وعده ويختم كلامه وينزل من منصته يتلاقفه الأصدقاء بالحمد والثناء على ما طرحه من آراء(مهمة) ثم يشكر إعجابهم بقوله: ( هل رأيتهم كيف مسحت به الأرض؟!)  (لقد نشرته على حبل الغسيل) 
و(محوته من الأرض) وكأن رأيه فتوى صدرت عن عالم مجتهد علينا أن نتبعه ولا نقلد غيره، 
وأحيانا يتصل بي صديق ليخبرني هل قرأت ما كتبته عن (فلان)؟ وحين أجيب بالنكران يحفّزني على قراءته لأرى: كيف مسح بيه الأرض ؟ والمفارقة أنهم حين يستهلون حديثهم عن الحداثة وما بعد الحداثة يذكرون كيف انتصرت الحداثة للآخر وللتعددية الثقافية وتباين وجهات النظر وتعدد الرؤى ويستشهدون بمقولة ( التوسير): كل قراءة مغرضة ولا توجد قراءة بريئة !.. والأدهى من ذلك أنهم يرثون سيبويه الذي مات في ريعان شبابه بسبب محاورة ثقافية علمية محته من الوجود، ويصرون على أن الخوارزمي لم تقتله شيخوخته بل قتلته محاورة الهمذاني.