نزار قباني.. هل كتب الـ(هايكو)؟

ثقافة 2020/11/11
...

  عادل الفتلاوي
ازدهر فنّ الهايكو ونضج في القرن (17) على أيدي الشعراء اليابانيين، المتمثّل بكلاسيكياتهِ وفلسفة “عقيدة الزن” التي هي رحمُ الهايكو وروحه، أي الاستغراق في التأمل وصولا إلى الاستنارة واليقظة، وهي المبادئُ التي أسّسها الرهبان الثلاثة باشو وبوسون وإيسا، وترجع أصوله إلى الرينغا منذ القرن(15) وبدأ رحلته من اليابان إلى أميركا ودول الغرب، وتمتْ محاكاتهُ والكتابةُ على منوالهِ والتخلّي عن إيقاعهِ وقالبهِ الصوتي،
فلكلِّ لغةٍ خصوصياتها وبلاغتها، ومن ثمَّ فهو فنّ شعريٌّ إنسانيّ يحاكي الطبيعة والتأمل والسلام وعمق أحاسيس الشاعر بكلمات بسيطة، ويشتمل على سبعة عشر مقطعا صوتيا، متوزعا بين ثلاثةِ أسطرٍ خمسة، ثم سبعة، ثم خمسة مقاطع، وهو شعر موزون حسب الألسنية اليابانية، ويبدو أنّهُ ظل أدبًا مقروءًا لدى العرب حتى منتصف ستينات القرن الماضي، وغير منتبهٍ لهُ إلا من قبل جماعة قليلة منهم الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، ونزار قباني، وعبد الكريم كاصد، ومحمد عضيمة، ومحمد الأسعد وجمال مصطفى وسامح درويش وعذاب الركابي وغيرهم.
 وعدَّ النقادُ المناصرةَ أوّل من كتبَ (الهايكو العربي) منذ عام 1964، وحينَ دخل الهايكو إلى العربيةِ كمعظم الفنونِ الأجنبيةِ فقد كثيرا من ميزاتهِ في التوزيع الإيقاعي وموضوعاتهِ، فضلا عن الجدل القائم بينَ الهايكو والألوان الأخرى مما يسمّى بقصيدة الومضة، وقصيدة النانو، والقصيدة القصيرة جدّا، والشذرة، وهل أنها شيءٌ من (هايكو عربي) بمواصفات متقاربة من الهايكو الياباني أو حتى الغربي، وفي إشارة إلى أولياتِ شعرِ الهايكو العربي نجد أنَّ المطلع على شعر الشاعر السوري نزار قباني وهو من أهم الشعراء في القرن العشرين قد أصدر ديوانا عام (1949) تحت عنوان (سامبا) إشارة إلى الموسيقى البرازيلية الشهيرة وهو ديوانه الثالث بعد(قالت لي السمراء) و(طفولة نهد) استخدم فيه قباني أسلوب الومضة الشعرية التي اقتربت كثيرا من شعر الهايكو إن لم يكن (هايكو بتوزيع قباني) فقد استخدم التقنية الشعرية ببراعة متكئا على وزن الرمل الغنائي الراقص، وأذهب برأيي إلى أنّهُ أوّل من كتب فنّ الهايكو عربيا، فقال في مطلع ديوانه: غطَّ قوسهْ في شرايين الشفقْ خشبُ القوس احترقْ حينَ مسّهْ اعتمد في مجمل هذه المقطوعات من ناحية الوزن على ستِّ تفاعيل من تفعيلات الرمل بين التام والمقطوع بواقع (تفعيلة + تفعيلتان + تفعيلتان + تفعيلة) أما من ناحية المعنى فنرى أن الكلمة الأولى والأخيرة من مقطوعاته كادت أن تكون مترابطة، فيستطيع القارئ قراءتها بالتشكيل الآتي: غطَّ قوسهْ حينَ مسّهْ في شرايين الشفقْ خشبُ القوس احترقْ وتتوزّع هذه التقنية هنا وهناك بجمالية عالية في مقطوعات الديوان الواحدة والأربعين بتقنية شعرية عالية، ملتزما بقافيتين مختلفتين قافية في(البداية/ النهاية) وأخريين في(الحشو) بكل مقطع، وهو هنا مختلف كليّا عما كتبه الشعراء اللاحقون من الهايكو الذي يكون نثرا أو موزنا دون التزام كقول المناصرة وهي من الخبب: الأفعى لا تُخلي جحراً، إلّا بالفأسْ الأفعى لا ترحل بالموسيقى الأفعى لا ترحل، إلّا إنّ قُطع الرأسْ ويقول في أخرى: الأولوية للرياح وللمطرْ أن يستجيب الله للفقراء، وانشر شراعك في الخليج حدّدْ بأوّلكَ السفر.
 وقد كتب في ديوانه(توقيعات) اللغة الدارجة أيضا وطبع ديوانه سنة (1969)، اي بعد نزار قباني بسنوات، واعتمد قباني التقنية ذاتها في ديوانه (هوامش على دفتر النكسة) لكنها جاءت نثرا و، إلا أنَّ(سامبا) هي المجموعة الناضجة من بين دواوينه في هذا المجال وقد احتوت على إحدى وأربعين مقطوعة، بالتأكيد سيلاحظ القارئ والمطلع الصعوبة البالغة في التفريق بين قصيدة (الهايكو) - بعد أن أحدثت الترجمة والتطوّر تغييرا يكاد أن يكون جذريا، فضلا عن خصوصيات اللغات الأخرى واختلاف الموضوعات فيها - وبين باقي فنون الومضة الشعرية، ويمكن القول إنَّ الشكل النهائي الذي بدأ يطغى على هذه الألوان عند الشعراء المعاصرين هو مسمّى قصيدة (الهايكو) الذي انفرد نزار قباني بشكله الناضج في مجموعة(سامبا).