أزهار علي
بدت لنفسها فجأة كعظمة متيبسة منحنية اثر كسر قديم ملتئم وواضح التأثير، احست ان ملامحها تنقلب بسرعة لفها للشال الاسود على رأسها، لتتحول الى ملامح أمها العجوز في المرآة المهملة، هل يمكن ان تكون خمس سنوات من الترمل ممرا كافيا للوصول الى شيخوخة في نهاية الثلاثينات من العمر؟ ام هل انا ندرك شبهنا بأهلنا حين ينحدر او يلتوي بنا الطريق فجأة؟
تسائل نفسها بصمت يصرخ في داخلها بقسوة، تخلع الشال المظلم بخمس سنوات ضائعة في الدوار والذهاب والاياب، تتحسس ملامحها التي تحولت الى دوائر حكومية ومعاملات واستنساخات وصور باهتة لا تنطق بشكلها القديم، ¬¬تنظر الى الاخاديد تحت عينيها وعلى جبينها، لقد حفرتها بحرفية دقيقة باصات دروب تعبدت بأوراق نقدية مهينة، من اجل مقابلة لمدراء وموظفين نهمين يترصدونها ويقلبون لحمها ما بين نوازع مكبوتة وتخيلات مكشوفة على وجوههم، وعروض صريحة يلقون بها في حجرها بوقاحة مذلة، تقف ساكنة، تتحمل كل التعليقات والكلمات التي يطلقونها بفجاجة من اجل توقيع غبي، او ختم لعين.
تغمض عينيها وترسم الدوائر حول عبارة، زوجة شهيد، يالبؤسها وبؤسه، هو جسد متفحم من دون ملامح، وهي حشرة تائهة في متاهة مرسومة بمكر.
الشهداء اكرم منا جميعا، نحن فداء للوطن، وتنادي المديرة في الميكرفون باسمها مع خمسة عشر طفلا وطفلة لتصفهم امام اطفال المدرسة جميعا، يصفق الجميع بسذاجة باذخة، ويتركها اليتم حبة وجع مقشرة عارية امام الانظار.
تمسك بعباءة امها خائفة تلحق بها لاهثة، وهي تصعد سلما هنا او تبحث عن غرفة لمدير هناك. كومة من اوراق مرتبة في فايل ازرق هي كل ما بقي لها من اسم ابيها الشهيد، يراجعان الدوائر الحكومية لتكتمل المهمة، ايام وايام وايام، تتذمر الطفلة النعسة وتريد العودة للفراش، تسحبها يد الام وتغسل وجهها، تبكي وهي تلبسها الملابس السوداء، تغرق ملامح طفولتها بالنحيب، وتلف وتدور خلفها ممسكة بطرف العباءة.
ـ لا اريد الزواج، اخاف على اولادي من اليتم...
تضحك والدتها وتصفها بالساذجة، تمشط شعرها الاشقر وتدندن لها بصوت مبحوح "هذا شلون اشكر، خده ورد احمر".
تقلب خصلات شعرها بين اصابعها فيلتمع بين طياتها البياض الصريح، تهمس مع نفسها: راح الاشكر و الاحمر.
تنتبه على الساعة المعلقة على الجدار وقد اقترب ميل الساعات فيها من الثامنة، والصباح رحلة جديدة، مسافة صغيرة مابين طفولة مكسورة ونحيب الامهات مبحوح.
السرير قصة صغيرة لطفلة ذات اعوام خمس، تهزها لتصحو، تتذمر الطفلة، تسحبها وتحملها بين يديها، تغسل وجهها، تبكي الطفلة، تلبسها اخيرا ملابس السواد، وتضغط بوداعة على كفها الصغيرة، امسكي العباءة ولا تضيعي مني.
