الترف التقني.. عهدٌ ثقافيٌّ جديد

ثقافة 2020/11/14
...

  ضحى عبدالرؤوف المل
 
يصيب الملل الكثير من القراء وبنسبٍ متفاوتة، فالتأثيرات التقنيَّة الحديثة وفيض الصور الالكترونية أدخلتنا في عهدٍ ثقافي جديد وربطتنا مباشرة 
مع الشاشة الصغيرة الخلوية التي فتحت الحدود مع تدفق الصور التي غزت 
الشبكات الاجتماعية.
فالمساحة التخيليَّة كانت في السابق تعتمد على صفاء الخيال وعلى غزارة الاستنتاج من قراءات مختلفة باتت اليوم هزيلة واقعياً لما أنتجته الصورة التي قطعت الحدود واختزلت الكثير من الإشكاليات التي كانت متعارفة تصويرياً أو فوتوغرافياً بعد أنْ كانت منغلقة على نفسها ومتخيلة كتابياً وتعتمد على التفاعلات المختلفة الناتجة عن قراءة الخبر أو المقال أو حتى مشهد روائي حيث باتت في متناول البصر بسرعة البرق، بينما في ما مضى كانت  تطاردنا الشخصيات أو الأفعال، وتستفز القوى العقليَّة، وتدفعها نحو استكمال المقال أو الرواية أو القصة حيث تتولد الصور الناتجة عن المخيلة التي تفتح عوالمها للقارئ او للكاتب معاً نحو الأفضل.
فهل التقنية الحديثة فرضت نفسها بشكلٍ أوسع بعد الأزمة الكورونية وانتشارها في العالم وتسببت بالحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وبالتالي بات القارئ أمام شاشة الخلوي ينتظر الصورة أكثر مما ينتظر الكلمة، وهل تشبع المخيلة بالصور أفقدنا العلاقة مع القراءة أم أنَّ مساحة الخيال عند الإنسان الحديث أصابها الضمور، وبات اليقين الفكري يعتمد على قوة الصورة بلا حدود وقدرتها على منح المتلقي التشبع البصري، وبالتالي أفقدته القدرة على التخيل ومنعته من لذة القراءة التي تفتح أبواب الخيال نحو اللا معقول أو حتى تخلق دوافع استنتاجيَّة قادرة على تغذية العقل بعيداً عن التراكم  البصري الذي يعيق الخيال ويضعه مباشرة بحالة من الملل أمام الكلمات. فهل  يقودنا الترف التقني الحديث نحو الأفضل أم الأسوأ؟
لا يمكن لأحد أنْ ينكر قيمة الصورة صحافياً، ولكنْ أنْ تفيض الصور على المخيلة وتتراكم لتحل محل العمل الأدبي في عملية التثاقف هذا يشكل وسيلة للهروب نحو اللغة البصريَّة أو الاعتماد على النظر وقدرته على الالتقاط السريع، ما يتسبب بمشكلات عديدة منها أنْ يستعصي التذوق التخيلي ويؤثر في الإنتاج الأدبي الذي أصبح ضيقاً في الآونة الأخيرة ومختزلاً، بل يستند إلى مفهوم الاختصار، لأنَّ القارئ سريع الملل وتستعصي بعض المفاهيم على تحليلاته،  فيميل إلى الاستسهال ويتجه نحو الصور السريعة التي تنتشر بسهولة، وبترف شديد في حالات عديدة لمسنا بعضها على الكثير من الروايات التي بدأنا نفتقد فيها قيمة المشهد المتخيل في الوصف والتحليل، كما في رواية فلوبير الواقعية لزولا في العصر الذهبي،  لكنَّ اللافت للنظر حالياً هو الاستبدال والاستدلال بالصور لإثارة البصر والحث على القراءة من خلال الصورة، وهذا يضر بالأدب ويجعلنا نقف بذهولٍ أمام التقنيات الحديثة ومعاداتها من حيث قدرتها على تخطي الحدود والسرعة الزائدة في تلبية رغبات المتلقي الذي أصبح كسولاً أمام هذا الفائض الكبير من الصور على الشاشة الصغيرة التي بين يديه. وبالتالي يصبح عاجزاً عن تخيل الكثير من الأشياء المحددة التي يقرأ عنها ولا يراها. فهل نشهد على الموت البطيء للأدب في عصر الصورة أو عصر الترف التقني. أم أنَّ الأدب سيختفي تدريجياً وتصبح الصورة هي الأبرز في العصر الحديث؟
في مجتمع استهلاكي تتحول المعلومة فيه إلى صورة تشهد على التراجع الكبير في القراءة والكتابة معاً، وهذه ظاهرة ما بعد الحداثة أو بالأحرى ظاهرة التأثير التقني في الإنسان بالدرجة الأولى، وبالتالي في مفهوم الثقافة وتراجعها بشكلٍ عام، وهذا يضعف إمكانية تنشيط القراءة المؤثرة في المخيلة بالتحديد بعيداً عن الاهتمام بالصورة التي لا تحاكي حتى النص الذي يتكلم عن موضوع ما بعيداً عن مفهوم الصورة الذي تمثله، وكأنها أداة للتلاعب البصري الذي يجمع بين النص والصورة التي تلعب دورها في المواجهة بينها وبين القارئ خاصة لما تمتلكه من قوة التأثير البصري بعيداً عن النص.
فهل سيصبح النص الأدبي مشكوكاً فيه أمام صورة ساعدتها التقنية الحديثة في فرض سلطتها على 
الأدب؟