المسخ والبناء في الذاكرة الشعبيَّة

ثقافة 2020/11/14
...

 د.  صلاح حاوي
 
أكثر من سؤال يواجهنا، وأكثر من مستوى لفهم التحوّل من ذاكرة في طور الانمساخ، إلى أشكال أُخرى من الذاكرة في طور التشكّل، إذ إن مستويات فهم هذا التحوّل تتوزع بين البحث عن موقع الوعي، والضرورة، والخصوصية والتحولات، وأنماط الممارسة؛ وما تتضمنها من الأسئلة:
 
الأول: الوعي بين الذاكرة والتاريخ 
ثمّة علاقة معقدة بين الذاكرة والتاريخ وأكثر تعقيداً قدرة أحدهما من الهيمنة على الوعي المجتمعي. عبر سلسلة زمنية تطورية من هذا التبادل في العلاقة بينهما، فقد أخذت الذاكرة تشكّل نفسها بديلاً عن التاريخ وتقطع علاقته الأبوية الشرعية مع الحدث التاريخي لتكون هي المسؤولة عن تصميم هذا الحدث وتصديره للمجتمع، وبذلك سيكون الوعي الفردي أو عندما يتضخم يكون مجتمعياً هو وعي الذاكرة لا وعي التاريخ؛ وهذا يجرّنا إلى مستوى آخر هو قدرة الذاكرة الشعبية على مسخ تفاصيل التاريخ وبناء تفاصيل جديدة، ومثلما تعاني الذاكرة من مسخ الذاكرة المفترضة فإنها قد أدت هذه الوظيفة فيما سبق بامتياز عبر علاقتها المعقدة مع التاريخ. 
 
الثاني: ضرورة الذاكرة الشعبية
إذا كنّا تحدّثنا في المستوى الأول عن العلاقة المعقدة بين التاريخ والذاكرة، وقدرة الذاكرة على أن تكون بديلاً - في بعض الأحيان- عن التاريخ، فإنّ الذاكرة الشعبية هي هوية مفترضة للجماعات غير الرسمية تعمل على أن تكون في مواجهة الذاكرة الرسمية أو ذاكرة الثقافة النخبوية؛ ولذا فإنّ وجودها ضرورة لتمثيل تلك الجماعات عبر تقديم ممارساتها الاجتماعية من طقوس وشعائر وخطابات لفظية وغير لفظية.
 
الثالث: خصوصية الذاكرة الشعبية
لكل أمّة ذاكرة، ولكل جماعة أو فئة او طائفة ذاكرة، ومن ثم نحن لا نتملك ذاكرة موحدة، بل نتملك صوراً متعددة من الذاكرة، لها أسسها وطريقة تشكلها وقد تتشابه هذه الصور في عمومية الوظائف لكنّها تختلف في تفاصيلها، فلم تتشكّل هذه الصور بشكل اعتباطي، بل هناك مرجعيات سياسية وثقافية واقتصادية عملت على خلط السوسيولوجي بالثقافي ومارست قدرتها البلاغية على التأثير والانتصار لوجودها، نحن نتعاطف كثيراً مع الذاكرة الشعبية ونؤمن ببراءتها المختلقة؛ لأنها ذاكرة العامة أو الشعب فهي تمثلنا ونحظى بوجودنا فيها، أو هي تمثل ذاكرة المقموعين في مواجهة ذاكرة السلطة وتحمل طقوس المقموع وامثاله وحكاياته في مجتمع لا يستطيع أن يختزل نفسه ليكون واحداً.
 
الرابع: تحوّلات الذاكرة الشعبية
عندما قدّم الفيلسوف الايطالي «جيامباتيستا فيكو» تصوّره عن فلسفة التاريخ وجد أن البشرية تمرّ بثلاث مراحل أو ثلاثة أطوار هي «العصر الأسطوري، والعصر البطولي، والعصر الشعبي» هذا التحوّل هو نظام الدورة التاريخية للبشرية؛ والإيمان بالتحوّل أو تغيّر المراحل يشكّل القناعة بالموجودات وكيفية تأدية وظيفتها وقدرتها على المواصلة في البقاء مدة أطول، لكنّ هيمنة العصر أو الطور الشعبي لا يعني بالضرورة هيمنة وسيادة الذاكرة الشعبية، إذ لم يثبت وجود ملازمة بينهما، بل يعني وصول العامة إلى الحكم؛ لكنّ هذا الحكم يفترض نظماً كتابية وأعرافاً اجتماعية واتفاقات مبرمة في إزاحة التاريخ النخبوي أو المركزي واللجوء إلى ما يسهم في بقاء عصر الشعب، ومن سمات التحوّل هو توظيف أدوات وآليات مختلفة في تقديم خطابات مختلفة تعبّر عن ثقافة قائمة على شكل مغاير.
وهنا يبدأ السؤال المركزي الذي يستند إليه حوارنا عن الذاكرة الشعبية بين الانمساخ والافتراض، إذ تحدّد لنا في ما سبق معالم العلاقة المضادة- إذا صحّ التعبير- بين الذاكرة الرسمية والذاكرة الشعبية وقدرة الأخيرة على التغلغل والتواصل في بناء هوية الجماعة التي تمثّلها، لكنّه لم يتحدّد أمامنا وجود ذاكرتين تمثلان بلاغة المقاومة للخطاب الرسمي يتصارعان في ما بينهما، وهما: «الذاكرة الشعبية التي تنازع المسخ» و»الذاكرة الشعبية التي تعيش لحظة الوجود»، إذ يبدو أن آليات التمثيل وأدواته تغيّرت، فصارت لدينا آليات مختلفة تنتج خطابات مختلفة عما أنتجته الذاكرة الشعبية التي تعبّر عن تراث الجماعة. بدأ التفكير في هذا التحوّل وتحديد أسبابه؛ وقد نجتهد في توصيف الحالة بناءً على معطيات سالفة تقول إن هناك جماعة رسمية تمثّلها ذاكرة رسمية أو هي تحاول أن تكون وليّة أمر التاريخ والحامي له، وجماعة أخرى تمثّلها ذاكرة شعبية ترفض أن تكون صنيعة التاريخ، بل تعمد إلى صياغة خطابها عبر آليات مفترضة؛ وهذا يمثل صراع الهويتين، ثمّ نستثمر هذا التوصيف ونقول: إنّ هناك ذاكرة شعبية جديدة تنسجم مع سياقات جديدة يغذّيها التشظّي، أي أنّها وليدة مرجعيات وآيديولوجيات متعدّدة تنتج خطابات غير متوافقة، أي لا تقع تحت خيمة واحدة؛ ومن أجل بقائها ووجودها أو الإعلان عن هذا الوجود ترفض أن تكون منتمية للذاكرة الشعبية المعهودة لأنها لم تعد تمثّلها وغير قادرة على تلبية حاجاتها. إذاً، نحن اليوم لسنا مع ذاكرة شعبية مفترضة واحدة، بل مجموعة من صور الذاكرة المفترضة. 
 
الخامس: ممارسات الذاكرة الشعبية المفترضة
قد نتفق على أن الذاكرة الشعبية لم تكن قادرة على الصمود أمام سياقات جديدة لها متطلبات واحتياجات لا يمكن لذاكرتنا التي استأنسنا بها القدرة على تلبيتها، ولذا فالمسخ جاء من صور مفترضة لا من ذاكرة واحدة، الأمر الآخر قد نتفق على أنَّ ثمّة علاقة تبادلية بين الذاكرة والمجتمع، لكنّنا لا نتفق على التبادل بين التاريخ والمجتمع، هذه العلاقة التبادلية تحتم علينا القول إنّ الذاكرة لا يمكن لها أن تكون ذاكرة اذا ما تحقّق فيها فعل الممارسة أي أن تصبح ممارسة اجتماعية، ومن ثمّ فإنّ النسيان ومحاولة صناعة التذكّر سيكون لهما الدور الأهم في إنتاج عملية المسخ والافتراض، سيكون النسيان اللاعب الأوّل في الغياب المتسلسل لممارسات الذاكرة، والمساهم مع التذكّر في الحضور المتدرّج للذاكرة المفترضة، عبر نسيان الفولكلور والعادات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات والحكايات الشعبية التي لم تعد تنسجم مع مرجعيات وسياقات الراهن. ومحاولة صناعة التذكّر لطقوس وحكايات قد تكون مختزلة أو لها خصائص وسمات تسمح لها أن تكون بديلاً مفترضاً.