رؤاه الإخراجيَّة.. تراكم ثقافي وفني

ثقافة 2020/11/14
...

ناجح المعموري
 
تاريخ طويل في المسرح كتابة وإخراجاً وتمثيلا، وظل يكتب ويسجل رؤاه الفنية ويدون نصوصه المسرحية، لكنه ابتعد تماماً عن خشبة المسرح على الرغم من كونه موظفاً في النشاط المدرسي، وكان الفنان ثائر هادي جبارة صامتاً، وأعده موقفاً ضد النظام البعثي الفاشي، حتى اللحظة التي سقط فيها الدكتاتور، إذ ابتدأت مرحلته الضاجة والصافية لطقوسه الرهبانية.
فأطلق عليه الوسط الثقافي في بابل صفة راهب المسرح، وتعد هذه الصفة هي التكريم المتسامي الممنوح له من جمهرة الادباء والفنانين في بابل ومن خلال علاقتي الصداقية العميقة معه، أقنعته بالذهاب لطباعة كل ما كتب من نصوص فنية ورؤى مسرحية، ولما عرف عنه من حرص وأمانة على أرشيف الأدباء والفنانين في بابل اقتنى كل ما نشرته الصحف واحتفظ به مجلداً.
ومن أهم اصداراته الجديدة «رؤى اخراجية معاصرة» من منشورات دار الفرات 2020، إذ تكشف هذه الرؤى الاخراجية تجربة فنية غزيرة التنوع وعميقة، استثمر فيها صداقاته التاريخية مع رموز الفن المسرحي واضاف عليها، وأجد ضرورة الاشارة الى أن راهب المسرح ثائر هادي جبارة كثير التأمل والانشغال وهو ينوي تقديم نص مسرحي مما كتب ويستمر مهموماً في تنوعات آلياته الاخراجية، يشطب ويطور ويتحدث عن رؤيته مع عدد من الفنانين ويستمع لهم وهم يتحاورون معه، وهذه طريقة ليست من خاصياته، بل دائما ما أشار بها لأستاذه صلاح القصب.
من يقرأ كتاب راهب المسرح «رؤى اخراجية معاصرة» سيتعرف على تاريخ طويل من تجاربه وسيكشف خط تطوراته ويدنو اليه اكثر.
ووجدت ملاحظة د.عامر صباح المرزوك الاستاذ والناقد الجامعي الشاب مثيرة، نظراً لمعايشته لتاريخ ثائر الطويل، اذ قال: «نادراً ما نجد ممثلاً مثقفاً، قارئاً لأغلب النصوص المسرحية العالمية، بل يردد حواراتها ومطلعاً عن كثب على أمهات الكتب المسرحية، وهذا ما جعله عارفاً ماذا يريد أن يقدم؟ وما الطريق الصحيح الذي يسير عليه؟، ليكمل مشواره المسرحي اثراً أكاديمياً وفنياً، فكان الطالب المجتهد والفنان المثقف والمعلم التربوي. وأضاف د.عامر صباح المرزوك: «عرفت ثائر هادي جبارة فناناً مسرحياً شاملاً، امتدت تجربته المسرحية لأكثر من اربعين عاماً بين التأليف والاخراج والتمثيل والتقنيات والاشراف».
هذه شهادة شابة تتمتع بعقل نقدي متميز وهذه مستحقات راهب المسرح ثائر هادي جبارة.
واستطيع اختصار ملاحظاتي عن هذا الكتاب «رؤى اخراجية معاصرة» وأقول: بأنه غنيّ في فهمه للتاريخية والتنوعات الاخراجية، وما اتفق عليه كل الذين عرفوا تجربة ثائر وقدراته العالية في فهم جسد الممثل بوصفه مكوناً من شبكات علاماتية.
العلاقة مع جسد الممثل تفضي على خشبة المسرح الى شبكات رمزية واشارية يوظفها ثائر ليختزل النص ويقلل فرضية الكلام ويفتح حضوراً لرموز تتمتع بطاقة حركية بارزة، وتعرف ثائر على الدور البارز الممنوح للجسد وأخذه الى مديات بعيدة، ووظف معه آليات عالية الطاقة مثل الغناء، الرقص، الموسيقى، الإيماء، وتوظيف جسد الممثل بوصفه كلّاً في حركات ...... مع الآخر كالرقص وتشكيلات آنية يبرز دورها من سينوغرافيا المسرح. 
وأكد ثائر وجود وسائل لها دور يحدد التكوينات فوق خشبة المسرح، وهي مشاهد عيانية لها دلالة لا بل دلالات قوية، كالمدونات والكتل ذات الحركة فوق المسرح، لتكون سينوغرافيا العرض، هذا الحراك يفضي لعلامات تغني العرض بتنوعات الاصالة، كما ان ثائر عارف بالألوان والأزياء بشكل كبير، بحيث يعطيها تجوهراً متسامياً وهو يلعب مع اجساد الممثلين.
وكان هذا الفنان الأسرع لتوظيف الفنون والاداء متعاملاً معها بوصفها 
عناصر مركزية في العرض المسرحي المعاصر، ومن ذلك الحركات الايمائية وابتكار لوحات واشكال بنائية تعيد تكوين الاجساد المرنة واللينة وتتمظهر عن اعمال نحتية ذات حضور مانح لمعنى لا يغادر المعاني التي كانت 
قبلاً.
وكشف راهب المسرح مكوناته الثقافية التي لعبت دوراً في بناء العرض المسرحي الجديد عندما قال: «بدت لحظة التحول في مجال دراسة العرض المسرحي على اساس المنهج السيميائي على وصف ان كل عنصر من عناصره يشكل منظومة علاماتية متفاعلة مع العلامات الاخرى لتركيب النظام الدلالي للعرض المسرحي بوصفه وحدة دالة على ان التشكيل الجماعي ينتج علامة صورية فقط، بل يسهم في بناء وتركيب عناصر العرض العلامية لوحدة دالة. وبما ان الدراسة السيميائية لفن المسرح حديثة العهد في المنطقة فإن دراسة التشكيل بوصفه عنصراً علامياً يتحرك داخل منظومة علامية مركبة، يعد امراً مهماً يتناسب والدور المسند اليه، ذلك الدور الذي يتجاوز بعده الفيزيائي والتقني الى البعد الدلالي وهو امر لم يحظَ بعناية الابحاث المسرحية.
اتضحت للمتابع والمتلقي لعروض ثائر ما تمر به من قدرات كاشفة من عناصر العرض وما يستولده، وهذا ما كشف عنه الرأي السابق الذي يدنو من خبرة ثقافية وفنية متميزة، وعارفة بآلية التحكم بالجسد وتوظيف ما يمكن من ان يكون طاقة، لا بل طاقة يستولدها العرض المسرحي مكتنزاً بكل ما يعرف عليه المسرح في عروض جديدة خاصة بالمشاهد العلاماتية التي برزت حديثاً ، لكنه إغتنت تجربته بتجارب لكبار الفنانين، ولعل الوعي بأهمية الميثولوجيا والايثربولوجيا التي غذت العرض امتزجت نوعاً من العلامات بين الممثلين فوق خشبة المسرح.
تحدث ثائر عن رؤاه الفنية وكان عارفاً وممتلئاً وكان بشخصية أكاديمية بارزة وفطنة في اللحظة التي قال فيها بأن الفضاء المسرحي هو الحيز الذي تشكله الاجساد وحركاتهم المتحركة وتناغم اصواتهم وتشتت الايقاعات والحركات التي ستكشف لاحقاً عن بروزها وما تعنيه كل ايماءة وحركة ورقصة خاطفة، لأنها - وهذا ما قاله ثائر هادي جبارة - تعبر عن موقف انساني ثقافي وفكري وفني، وهذا الموقف لا يعني الفرد الواحد، بل الجماعة التي ابدعت واخذت منها الجماعات اللاحقة، بحيث تكرس العرض طقساً له وظائف عدة ومركزية توحي لعتبات بدائية وأخرى معاصرة.
رؤى إخراجية معاصرة أحد مصادر الثقافة والمعرفة والفكر والفن وهو مصدر أكثر من مهم لمن يريد عقد صداقة مع العرض المسرحي او يقوده نحو فضاء الطقوس.