إذا وضعتم الكلمة مع لِفقها

ثقافة 2020/11/14
...

عبدالزهرة زكي
 
لست بصدد مخالفة القائلين بوجوب حفاظ الشاعر على فطرته وبداهته حين أقول الآن إن الشاعر بحاجة إلى التعلم، تعلم الشعر وسواه من المعارف والعلوم ذات الصلة بالعمل الشعري وبثقافة الشاعر الأقرب إلى روحه واهتماماته في الحياة والوجود. العلم بالشعر شيء بينما حضور البداهة حين الكتابة شيء آخر.
يحتاج الشاعر لكلِّ هذا، قبل أسبوعين أو ثلاثة كنت قد كتبت هنا عن سؤال البحتري الشاب لأبي تمام، وأوردت في ذلك المقال جانباً من جواب أبي تمام يجدر الوقوف عنده، كان البحتري يريد أن يتعلم ولعل اختياره لسؤال شاعرٍ مثل أبي تمام وليضع ثقته فيه يعبّر بصيغة ما عن جدية حاجته وجدية وجوده في الشعر، وهو وجود ما كان له أن يتقدم لولا قدرته (البحتري) على التعلم. يحتاج الشاعر فعلاً، أكثر من سواه، إلى أن يتعلم الشعر. لكن غير الشاعر يتعلم الشعر لفوائد أخرى غير شعرية، روحية وثقافية، وهي غير الفوائد التي يمضي إليها الشاعر المتعلم مباشرة. الشاعر يتعلم الشعر ليكون شاعراً ناجحاً، ولا ينجح الشاعر من دون أن يضفي على الشعر قيمة ما.
في العالم الآن مدارس ومعاهد تريد تعليم الشعر، وهي تتباين حتما في مستوى جديتها، ومن ثم في قيمة الفائدة المتوخاة منها. كتبت قبل سنوات هنا في (الصباح) عن فيلم كوري كان ممتعاً بمستوى جديته وجدواه الروحية، وكان موضوعه مكرساً عن تجربة سيدة تدرس وتجرب الشعر في أواخر سنوات حياتها وذلك بعد مصادفتها معهداً لتعليم الشعر، لكن قبل أيام صادفت لوحة إعلانية كبيرة في شارع ببغداد، وكانت تروّج لمعهد أو مكتب لتعليم الشعر، لم تقل اللوحة هذا بشكل مباشر لكن مؤدّاها يذهب إلى القصد المراد من اللوحة الإعلانية وهو قصد يعرض على الراغبين بالشعر الإفادة من التعلم وربما التدرب أيضاً في هذا المعهد. لكن مع غياب الثقة في الكثير من الأشياء وفي الإعلان عنها فإني أنصح بعدم اعتماد إشارتي للمعهد البغدادي كمعيارٍ للثقة بالمعهد وبإعلانه.
عموماً فإن من لا يمتلك القدرة والإرادة لأن يكون شاعراً فلن يكون. هذه القدرة لا تُكتَسب، لكنها يمكن أن تغتني وتتطور إذا ما كانت أصيلة وراسخة. نحن في العادة نقرأ، خارج المدارس والمعاهد، وذلك لكي نتعلم. ويصح هذا حتى في العادات القرائية التي تروم المتعة فقط من القراءة هناك حد معين من التعلم واكتساب المعرفة والعلم بما نقرأ فيه وعنه بهدف المتعة، ولا معرفة من دون متعة. المتعة الشخصية أساس وغرض كل تعلّم وتطوّر وإبداع في أي مجال يمضي إليه الفرد بمحض إرادته وبوازع داخلي.
يصحّ هذا على الشعر وعلى سواه أيضاً، من معارف وعلوم وآداب وفنون. من دون القدرة والإرادة والاستعداد الشخصي للعمل والنجاح في أي حقل سيكون ما يهدر من جهد ووقت مجرد مضيعة للوقت والجهود وربما للحياة الشخصية كلها.
ينقل أبو هلال العسكري عن أستاذه أبي أحمد العسكري قوله: «كنت أنا، وجماعة من أحداث بغداد، ممّن يتعاطى الأدب نختلف إلى مُدرك، نتعلّم منه علم الشعر. فقال لنا يوماً: إذا وضعتم الكلمة مع لفقها (أي ما يلائمها) كنتم شعراء». ومدرك شاعر عباسي من طبقة دنيا من طبقات الشعراء، عاش في القرن الرابع الهجري، فيما انتهى أبو أحمد ليكون واحداً من كبار الفقهاء والرواة والمؤسسين لبدايات النقد الأدبي لدى العرب. لم يختر أبو أحمد أن يكون شاعراً ولم يعلمه مدرك كيف يكون شاعراً. هذه قيمة تعلم الشعر مبكراً من قبل رجل يحتاج إلى معرفة الشعر ليس بقصد كتابته وإنما بما يغنيه في الميدان الذي تكرست فيه موهبته وقدراته.
لكنَّ أبا هلال العسكري، وهو من تلامذة أبي أحمد، وبالتفاتة نادرة من حيث كونها مبكِّرة ينظر بموجبها إلى مشكلة تراجع دَور الشعر وتقدم الخطابة عليه في ذلك الزمن فيقول أبو هلال في كتابه الصناعتين: «والذي قصّر بالشعر كثرتُه وتعاطى كلّ أحدٍ له حتى العامة والسفلة؛ فلحقه من النقص ما لحق العود والشّطرنج حين تعاطاهما كلّ أحد». كان هذا التصور قد جاء قبل أكثر من ألف عام (حيث عاش أبو هلال العسكري)، وكان هذا يعني أن مشكلة كانت حينذاك تواجه الشعر بفعل ابتذاله واستسهال (تعاطيه).
الشعر مخادع من حيث قدرته على اجتذاب أي مريد، ومن حيث طبيعته المغرية بالتفكير بأنه كلام ممكن قوله، دائما هنالك شعراء نادرون ودائما حواليهم كثيرون لا يبقى لهم أثر. لا يريد أبو هلال العسكري التأكيد بهذا على أن كثرة الشعر تنتقص من قيمته، فبرغم أن الشعر قائم على الندرة فعلاً إلا أن العمل الخلاق فيه يمكن أن يوفر كثرة في نوادر الشعر، كما أن العسكري لا ينتقص بقوله من قدرة العوام على الإبداع في الشعر، سيكون هذا سخفاً. تاريخ الشعر العربي ظل دائما يتجدد بالعشرات من الشعراء النادرين المقبلين من قاع المجتمع ومن هوامشه، ممن انحدروا من طبقات فقيرة ومن أسر متواضعة من حيث إمكاناتها أو نسبها. ما كان يريد العسكري الإشارة إليه هو ضعف المعرفة بالشعر، ما لحقه من نقص حسب تعبيره، الشعر قد يؤلف عفو الخاطر، لكن هذه تلقائية لا تتشكل بوضع منتج ونادر ما لم تتأهل بالمعرفة، ولا تتحصل المعرفة من دون العلم والتعلم. كان التعليم حينها يتطلب إمكانات لا يصبر على وطأتها ولا يتحمل كلفتها من الأسر المعدمة سوى من يصر منها على مستقبل أفضل لأبنائه، أو من يساعده الحظ بفرصة نادرة للتعلم. 
لقد كان استسهال كتابة الشعر، ومن ثم ابتذاله، يأتي حتى من بعض الشعراء كبار ومن ترتيب اجتماعي أرفع، وهذا خارج سياق المقال، وهو ما يمكن أن نتحدث عنه وعن دواعيه في مناسبة أخرى.
ما هو مهم في سياق هذا المقال هو المعرفة الثاقبة بفنون الشعر التي كان يتوفر عليها كبار الشعراء. 
كان البحتري يفضّل الفرزدق على جرير، وقد كانت معرفته الواسعة تؤهله لأن يسوق شاهداً نقدياً لتسويغ هذا التفضيل من خلال الإشارة إلى أن الفرزدق «يتصرّف من المعاني فيما لا يتصرّف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كلّ قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى». وهذا رأي نقدي يؤكد نباهة الشاعر (الفرزدق)، وحتى البحتري نفسه، إلى أهمية تفادي الرتابة والتكرار والنمط كبعض من آفات ركود تجربة الشاعر أي شاعر ومحدوديتها. المعرفة بالشيء تفيد في إغنائه بما يغني حقاً أو تنظيفه مما يشوبه 
واقعاً.