قصب البردي من الأهوار الى متاحف النرويج

ريبورتاج 2020/11/15
...

  أوسلو: سندس الساعدي
النرويج بلاد «الفايكينگ» تزخر بثقافة السفن البحريَّة وصناعتها وتهتم بموروث أجدادها من السفن الأثرية، فتكثر فيها متاحف السفن ومن هذه المتاحف متحف (كونتيكي) الذي تتوسطه سفينة ((Teigeris نسبة الى نهر دجلة. ما إنْ دخلنا المتحف وعرَّفنا بأنفسنا بأننا من جريدة “الصباح” العراقيَّة حتى رأينا ترحيباً كبيراً وفرحة من القائمين على المتحف أشعرتنا بعظمة حضارة وادي الرافدين وملئنا فخراً كوننا من تلك البلاد.
يأمل القائمون على المتحف أنْ يبنوا بيتاً من قصب البردي في المتحف وخصصت مساحة لذلك ولكنَّ المشروع مؤجلٌ لصعوبة استيراد قصب البردي من العراق في الوقت الراهن.
في وسط المتحف سفينة مصنوعة من قصب البردي كنموذج مطابق للسفينة الأصليَّة التي بنيت على ضفاف نهر دجلة يبلغ طولها 18 متراً وعرضها 6 أمتار ويصل ارتفاع شراعها الى 10 أمتار ويبلغ وزنها 33 طناً.
 
قصة السفينة
تور هايردال عالم نرويجي ورحالة مغامر تخصص في علم الأعراق وتاريخ انتقال الحضارات توفي في العام 2002 عن عمر ناهز 88 عاماً. كان له رأيٌ علميٌّ مخالفٌ لما هو سائدٌ بين أقرانه ومن سبقوه من العلماء الذين قالوا إنَّ السومريين في بلاد ما بين النهرين القديمة، كانت لديهم قوارب وأشرعة، لكنَّ هذه الأشرعة كانت تبحر في الأنهار وفي المياه الساحليَّة فقط.
أما هايردال فكان يرى أنَّ السفن البدائيَّة تستخدم أيضاً للإبحار في عرض البحر، وأراد أنْ يثبت بأنَّ البحيرات والبحار العظيمة لم تُعق الاتصال بين الحضارات القديمة، بل على العكس من ذلك تماماً. وفي العام 1976 أراد لرأيه العلمي أنْ يحقق وينقل أفكاره من الورق الى البحار والانهار. وعقد العزم على زيارة بلاد ما بين النهرين العراق مهد الحضارات لدراسة قوارب القصب.
ويذكر هايردال في مذكراته أنَّ «سكان الأهوار نصحوه بأنَّ أفضل القصب الذي يطفو يجب قطعه في فصل الصيف وتحديداً في شهر آب».
بعد جهودٍ مضنية ومفاوضات وافق العراق آنذاك على بدء العمل واستقبال الفريق للعمل على بناء سفينة (تايگريس) «دجلة» التي ستحمل علم الأمم المتحدة.
وفي صيف العام 1977 قاد هيردال بناء قارب من القصب هو الأكبر كما يقول منذ 3000 عام في المنطقة التي يلتقي فيها دجلة والفرات معاً في بلاد ما بين النهرين واستمر البناء الى الخريف وحمل القارب اسم «دجلة» فعلاً ليبحر بعلم الأمم المتحدة من أجل أنْ يكون انتقاله وعبوره أمراً ميسوراً.
تم الانتهاء من بناء القارب وصار جاهزاً للإبحار وهو عبارة عن لوحة تاريخيَّة يتجسد فيها الحاضر.
لقد كان لظهور القارب آنذاك في مياه العراق إحياءٌ لحضارة السومريين بطريقة عملية وقد تم توثيق هذا الحدث من قبل العاملين فيه وهناك العشرات من الصور والقصص الجميلة ما زال القائمون على المتحف يحتفظون بها نقلاً عن الرحالة النرويجي هايردال.
رافقه طاقمٌ دوليٌّ مكونٌ من 11 رجلاً. (نورمان بيكر) الولايات المتحدة الأميركيَّة، و(يوري سينكيفيتش) الاتحاد السوفيتي، و(كارلو موري) إيطاليا، و(رشاد سالم) العراق، (أسبيورن دامهوس) الدنمارك، (هانز بيتر بون) النرويج ، (كاراسكو غيرمان) المكسيك، (نوريس بروك) الولايات المتحدة الأميركيَّة، (ديتليف سوتزيك) ألمانيا، و(تورو سوزوكي) اليابان.
 
طريق الرحلة
بدأت الرحلة من شط العرب في العراق عبر الخليج العربي واجتازت مضيق هرمز إلى المحيط الهندي. ذهبت الرحلة إلى كراتشي في باكستان مروراً بحضارة السند القديمة ومدينتيها التاريخيتين الشهيرتين موهينجو دارو وهارابا وانتهت في جيبوتي في القرن الأفريقي على عكس القوارب التي كانت تعمل مع تيارات الرياح والمحيطات، كان على قارب دجلة الإبحار إلى موانئ محددة مسبقاً.
لكنْ سرعان ما اتضح أنه كان من الصعب السيطرة عليه. ومع ذلك، تمكنت السفينة من الوصول إلى وادي السند في باكستان وجيبوتي في شرق إفريقيا. كان هيردال يميل إلى الإبحار من نهر دجلة إلى البحر الأحمر، ولكنْ بسبب الحرب والصراعات في المنطقة في تلك الفترة، قرر أنْ تكون جيبوتي محطة الرحلة الاستكشافيَّة الأخيرة.
أظهر هيردال أنَّ قارب القصب يمكن أنْ يبحر في البحر، وبالتالي تعزز اعتقاده أنَّ في العصور القديمة كان هناك اتصالٌ خارجي بين الحضارات العظيمة حول شبه الجزيرة العربيَّة.
لقد أراد أنْ يُظهر أنَّ الثقافة السومريَّة القديمة وما يعرف الآن بالعراق، قامت ببناء قوارب القصب التي يمكن أنْ تبحر حول الطرف الجنوبي من إفريقيا إلى أميركا وأنَّ الثقافة لم تنشأ بشكل مستقل في أماكن مختلفة في الوقت ذاته، بل انتشرت من مكانٍ إلى آخر ومن المحتمل أنْ يكون القدامى قد تمكنوا من إقامة اتصال مع مناطق ما وراء البحار، وأنَّ هناك اتصالاً وتأثيراً بين الثقافات القديمة لبلاد ما بين النهرين ووادي السند ومصر عبر البحر.
ولاحظ هيردال بحسب مذكراته أنَّ عدداً من أوجه التشابه المذهلة بين الثقافة السومرية المبكرة وثقافة الأميركيين الأصليين في أميركا. على سبيل المثال ، تشابه الزقورات في العراق مع أهرامات المايا في المكسيك.
 
زمن الرحلة
بلغت مسافة الرحلة حوالي 6800 كيلومتر، جاب فيها قارب القصب، الأنهار والمحيطات لمدة 148 يوماً. وكان يمكن له أنْ يجوب بقية البحار ولكنَّ الأمر لم ينته بالشكل
 المخطط له!.
 
نهاية الرحلة ورسالة السلام
رحلة هايردال هذه كانت آخر رحلة له حيث عانى الرحالة العالِم كثيرا وواجه معارضات مهنية كما يذكر، هايردال تحدث مراراً عن أنه من الممكن أنْ يكون قد تم الإبحار إلى أميركا من إفريقيا قبل الأوروبيين بألفي عام، وهناك تواصلٌ بحري بين الثقافات القديمة في الشرق الأوسط وهذا الكلام لم يرق للبعض ولم يسلط عليه الضوء كثيراً لأنه يؤدي الى تغيير معتقدات علميَّة تاريخيَّة راسخة في أذهان الكثيرين.
 
رحلاته الأخرى
سبقت هذه الرحلة رحلات عدة من أهمها رحلة عام 1947 مع طاقمه المكون من خمسة أفراد في ابحر من أمريكا الجنوبية إلى بولينيزيا (جزر في المحيط الهادي) بقاربٍ مصنوعٍ من خشب البالسا وهو خشب من الغابات الأميركيَّة الاستوائيَّة، ويمتاز بخفته، في رحلة بلغت مئة يوم ثم تم نقل القارب إلى أوسلو في العام 1950. وفي العام التالي حصل الفيلم الوثائقي الذي صوره في رحلته على جائزة الأوسكار.
أما الرحلة الاستكشافية الثانية فكانت عام 1969، وتلتها أخرى 1970. في محاولة لعبور المحيط الأطلسي من المغرب. صُنع القاربان من القصب الذي كان يستعمله المصريون القدامى.
وفي نهاية المطاف وفي عرض البحر قرر هيردال إحراق قارب القصب!!.
لم يكن إحراق القارب إلا رسالة احتجاجٍ على الحرب المشتعلة بين اثيوبيا واريتريا ليقول إنَّ الحروب لا تقتل الحاضر فقط وإنما تشوه التاريخ أيضاً، وترسلنا الى المجهول.
وبعث برسالة إلى الأمم المتحدة مع مناشدة جاء فيها: نحن جميعاً نتحمل مسؤوليَّة مشتركة ما لم نطالب المسؤولين باتخاذ قرارات نيابة عنا بأنَّ الأسلحة الحديثة يجب ألا تكون متاحة بعد الآن.
وفي الثالث من نيسان عام 1978، اشتعلت النيران في قارب دجلة خارج ميناء جيبوتي.
 
إعادة بناء قارب دجلة
قرر القائمون على المتحف النرويجي إعادة بناء نموذج القارب مع ذكريات لعمل الرحالة النرويجي الذي أثبت أنَّ الاتصال الإنساني كان موجوداً آنذاك وكان الوسيلة لهذا الاتصال هو قوارب القصب التي تجوب البحار والأنهار ووصلت من العراق الى القارة الأميركيَّة. أما جهود هايردال هذه خلدت اسمه وحقق شهرة دوليَّة كبيرة وتقديراً أكاديمياً، وتم تسجيل أرشيفه في اليونسكو.