موجةٌ للهروب.. موجة للعودة

ثقافة 2020/11/15
...

زعيم نصار 
موجةٌ للهروب، وموجةٌ للعودة من الهرب، تراهما المرآة، وجهين في بئر الزمن، في لحظةٍ ما، ربما ينقلبان على بعضهما، وعلى زورق يتهادى فوق بريق النهر. 
حينما أخبركِ عن آلامي، أرى أجنحةً ترفُّ حول كتفيكِ، أرى نجمةً تنطبع على صوتكِ.
 منذ شجرة الأخطاء، أحاول أن أمسك الثمرة لكي أراك، أنا خداعك، أخدعكِ كلَّ ليلٍ لأعبر نحو  كوكبكِ، لمساتي تهذي فوق القميص، كلما أحاول أن أعرّفكِ يضيع لساني في الطريق إليكِ، كلما أحاولُ الهروب منكِ أجدكِ في مرآتي، تنظرين لمتاهتي، وتغرقين في هذا الجحيم الذي تنتحر فيه الأسماء.
نلعب في المأساة واللهو، لعبة الليل وشعلته، بوميضِ روحكِ أبصرني، اسمي حقيقتي المشكوك فيها، أطلق عصافير أكاذيبي خلف شفتيك وأهرب من السطوح التي تخنق صوتي.
الأوهام مأدبتي، تعلّمتُ منكِ أن الكلماتَ تراني مذبوحاً على الورق. 
انحدرنا نحو تفاحة خيالكِ، مررنا بأشجار التين على الضفتين، انعطفنا نحو الساحل، هنا صفصافة تنحني فوقنا، جسدان يغرقان في بلورات الرمال، تدفعنا الرياح لنتهادى، ونحن نلتهب فوق الحبر يتلوى تحتنا، نتقدّم، نجري، يجري معنا لهب الجنون بلون الذهب، وقد تجلّت الذروة ناصعةً.
اِنهض إيّها النّهار، في نرجسة النبع، لأتذوّق ملح كأسها، روحها، شعرها، نظراتها، شفتيها، أصابعها، شعلتها، اِنهض أيّها النّهار لأغلقَ فمي على كلماتها.
أنا قوسٌ مشدودٌ نحو شعرها المجنون، أنا زيتُها والشعلة، دعيني التبسُ في بسالتكِ، في غموضكِ، قصيدتي يا ناي حياتي.
يا فصَّ الحكاية، يا حليبَ الكلمات، وهو يسيلُ فوق ورقي، تحمّرُ اللحظات بيننا، يلتمعُ القرطُ المتدلّي فوق عنقكِ، أصغي لهذه الموسيقى، أصغي لهذه الغبطة، لهذا الكون الذي يخلقُ نفسه في ليلِ العاصفة، أطوارُك تتجرّدُ من الزمن، أسراب الفراشات على نهديكِ، جمراتكِ في ذروة القطاف، كلماتٌ شهية، تجرُّنا أعماق النهر، تجرُّ زورقنا، لنتدحرج كموجة واحدة، نحن الموجتين، اتّحدنا، إلتبسنا، بيدي مشعل لبريق رموزكِ، مجازكِ يُعطّرُ حياتي برحيق الشغف، سريرنا النهر ونومنا يغطُّ بين ماء وماء، بين كلمة وأخرى، أيّتها الرشيقة الناصعة، مررّي صوتكِ بين أغصان روحي.  قصيدتي لرسالتكِ أجراس مضاءة بلهبٍ المفتاح.
أيّتها الناصعة، أيّتها المتموّجة فوق الغمام، تنهارُ أمام كلماتكِ كلُّ الأسوار القديمة، أنتِ أعلى من كلِّ الأمواج، يرتجفُ المكانُ تحتنا، يضطربُ الزورق، اغتبطُ غريقاً في أعماقكِ، اغتبطُ بكِ، يغتبط قلبي العاشق السكران، نشوتُنا خضراء، ونشيدُنا أحمر، برقنا يُبلّلُ الغيمة بالغواية فنمطرُ ونرفعُ الشراعَ نحو الخيال، نحو ينبوع الفجر وخيوله الشاهقة. حينما كنّا وحدَنا في البيت، وحدَنا مع هذا الجنون، نلخبطُ الأوراق، نفتحُ نافذةً، ونغلقُ الباب، وحدَنا نُكرّر غفلتنا عن حياةٍ أخرى في مدينةٍ بعيدةٍ، نحتاجُ أجنحةً لنصلَ إليها، نُكرّرُ الأخطاء نفسها، أنظرُ بعينيكِ للأيام وهي تمرّ مثل السحاب، نجرجرُ الزمن وألوذ بالفرار إليه، نرتمي على سريرنا صارخين، لم نزلْ على قيد الحياة، نكتبُ معرفتنا، معرفتنا التي لم تكتمل لولا اتحاد الموجتين، موجة للهروب، وموجة للعودة من الهرب.
قصيدتي:
أشهقُ في مرآتكِ، فأرى أعشابكِ الذهبيَّة، تسيلُ كلماتُنا فوق عريِّ الحقيقة، تمّحي الاشارات، وكنّا معاً نردّدُ: كيف لنا أن ننامَ تحت سماء واحدة مع قطيعٍ من القانطين، نحن حريتنا، نحن متحدان بأجنحة واحدة، نحن موجتان في زورق واحد، علّمنا النائمات والنائمين على الإبحار  والطيران.
كنّا نصعدُ من أعماق النهر حتى نصطدم بضفاف صوتينا، علينا أن نبقى راسخين، علينا أن نحبس أنفاسنا، حينما نصغي لأجنحة أدمنت الطيران فوق حياة هذا النهر. كنّا وحدنا، كنّا منارةً على ساحل استبدَّ به الهيامُ على ضفةِ النّهر، كنّا نلعبُ، كنّا نلعبُ مع الأشياء، لعبنا مع بريقنا، بريق موجتينا، لعبنا مع السفينةِ، لعبنا مع الحبال التي تجرّها، لعبنا، يا قصيدتي لعبنا، حتى دخلنا كهفاً بلا أفقٍ.
 اِقرئي، اِقرئي، الهواء، الشجر، الحجر، والنبع، ستدومُ أيامكِ طويلاً، أيّتها الصعبة، الناصعة، الطيّعة، بقوّتكِ التي هي عدم الاكتراث لجبروتي، ونكراني، وجحودي.
كلُّ ليلٍ تكبرين فيَّ، كلُّ لحظةٍ أنمو فيكِ، يا لهذا الحنين للتفوق، للبقاء في ينبوعكِ
يا فرحَ الأنهار، يا لهبَ الليل وشعلته، 
جمالُك خارجٌ من قلبِ الطبيعة لينبع غرامه في قلبي، ينبع في الفراشة، في الرمل وفي الحصى، في الغيمة وفي الشجرة، في الغابة وفي الصحراء، أيّتها الخارجة من لساني اِغمريني بشعاعكِ.
لولاكِ، لنسيتُ الأمطارَ، والرياحَ، ورجعتُ اندمجُ بصخرة، ربّما توحشّتُ، وقدّتُ قطيعاً من الذئاب، أطاردُ النعاجَ، لولاكِ لاتّحدتُ بالطبيعة، وبقيتُ أعمى، لَمْ أَرَ وجهي في المرآة ذئباً ينفرد بالقاصية، أيّتها الناصعة بكِ أواسي قلقي، أنسِّقُ نهار الليالي، قصةً، قصةً، حتى تستمرُّ حكايتنا. 
معكِ أستشعرُ الهزَّات قبل حدوثها بسنوات، تهزّنا البراكين قبل وقوعها، نسيرُ على حافة الخطر، ندفع الغرقى الى الأعماق، نقيمُ في الحريق، في العواصف، في الإعصار، في الموجة الهائجة، ونطلُّ على العالم، نشيّدُ وحدتنا تحت مصابيح أعمدة الشوارع، رحلاتنا كثيرةٌ، ومراكبنا راسيةٌ على الصحراء، نقيسُ حياتَنا بكؤوس اللوعةِ والألم، أعماقُنا ملأى بالجمرات، وبتحولات لم ندركها.
أيَّتها القصيدة موجتان نحن، موجةٌ للهروب، وموجة للعودة من الهرب. 
قبل أن أمسكَ صوتكِ، كنتِ في رأسي تفرّين منه وإليه، كنتِ في غابتي الغامضة، تطيرين من شجرة الى أخرى، تحطّين على لساني، تختفين، تعودين، تلعبين مع زرقتي، مع زرقة السماء، مع زرقة النهر، ترفعين شعلةً في العاصفة تدورين معها، تصعدين بها الى الذروة، أطاردكِ كلّ ليلٍ، في رحلتي الخيالية 
أيّتها القصيدة، فتفجّرين بركاني على الورقة.