أنثروبولوجيا التسامح.. من الفيزيقي إلى الثقافي

آراء 2020/11/15
...

 د. يحيى حسين زامل
يبدو أنَّ المقولة المهمة "عظمة الرجال تقاس بمدى استعدادهم للعفو والتسامح عن الذين أساؤوا إليهم". لـ "تولستوي"، هي دلالة ثقافيَّة مهمة وإشارة يجب التوقف عندها طويلاً، فهي خريطة طريق يمكن من خلالها وصول الجنس البشري للعظمة والخلود.وفي ذات الموضوع يبدو أنَّ هناك سببين على الأقل يوجبان دراسة العلاقة الملتبسة بين "الانثروبولوجيا" و"التسامح"، يتصل أولهما بتسليط الضوء على بعض الجوانب الإشكالية الرئيسة ذات الصلة ببروز مشروع التسامح في الوقت المعاصر، 
وثانيهما بالطرائق التي جعلت بعض المقاربات الاجتماعيَّة والإنسانية لثقافة التسامح أقوى من البدائل الأخرى وأشد منها فاعليَّة. ولقد انبنى التسامح وعدم التسامح في الدراسات الأنثروبولوجية على رؤيتين، رؤية فيزيقية ترى الفارق البشري يقوم على الفارق البيولوجي من لون وجنس وعرق، ورؤية ثقافية ترى الفارق الديني والإثني والمذهبي أو الطائفي، ووفق هاتين الرؤيتين جرت الكثير من التصفيات العرقية والدينية والإثنية، ووئد التسامح، ونبذ التنوع، وانتشر العنف بكل ما يملك من قوة ليقضي على آخر معاقل التسامح ومنابعه الكونيَّة.
 
مصطلح التسامح
يبدو أنَّ مصطلح (toleration) "التسامح" المشتق من الفعل اللاتيني (tolerare) والذين يعني "التحمل". حديثٌ في الدراسات الاجتماعية والثقافية، ولكنه دخل فيها بعد ولوج الانثروبولوجيا المعاصرة في دراسة المجتمعات الحضرية وإشكاليات التعددية والتنوع الثقافي والاثني. ومع هذا يُعرِّف قاموس (Random House) التسامح بأنه "موقف عادل وموضوعي ومتساهل تجاه أولئك الذين تختلف آراؤهم ومعتقداتهم وممارساتهم وأصولهم العرقية أو الإثنية، وما إلى ذلك". وبشكل آخر هي حكم المرء على مجموعة أو ممارسة أو معتقد بشكل سلبي، ولكنه يتخذ قراراً واعياً عدم التدخل في ذلك أو قمعه، على سبيل المثال، قد تنظر النخب الحاكمة إلى بعض الأديان أنه خاطئ، ولكنها تؤيد مع ذلك حقوق أتباعها في المجاهرة بها من دون عقوبات قانونية، وعلى المنوال ذاته، يمكن أنْ ينطبق ذلك على بعض الثقافات الفرعية التي لا تتوافق مع الثقافة العامة.
 
من الفيزيقي الى الثقافي
إنَّ اللحظة التي بدأت فيها "الأنثروبولوجيا" النظر إلى الإنسان بصفته قابلاً للدراسة وفق رؤية بيولوجية وفيزيقية، برز فيها اتجاهٌ يرى التمايز العرقي والجنسي بين المجتمعات والشعوب، وبحسب لونه وجنسه وعرقه، ويرى مثلاً أنَّ العرق الأسود مثلاً أقل درجة من العرق الأبيض، وأقل ذكاءً منه، لذلك جُرّد العرق الأسود من أبسط حقوقه، وأصبح التسامح معه معدوماً، واستُلب حقه في الحرية والحياة والعمل. وحول هذا يرى الأنثروبولوجي "شاكر مصطفى سليم" في قاموسه: أنَّ الزنوج الأميركيين (American Negroes) الذين استُرّقوا في اميركا، ظلوا بسبب سياسة التمييز العنصري معزولين عن السكان البيض، وقُدّر عددهم في العام (۱۹۷۰) بأكثر من (۲۰) مليون نسمة".
ولكن هذا الاتجاه لم يستمر طويلاً فقد انتقد رائد "الأنثروبولوجيا الثقافية" الأميركي "فرانز بواس"، هذا الاتجاه العنصري، وكان واحداً من أبرز المناهضين للإيديولوجيات العنصرية المنتشرة آنذاك، وعمل كذلك على برهنة أنَّ الفروق في السلوك البشري لا تُحدَّد من خلال الترتيبات البيولوجية الفطرية بل أكثرها نتيجة للاختلافات الثقافية المكتسبة عن طريق التعلم الاجتماعي. وقدم نظرية "النسبية الثقافية، التي تنص على عدم إمكانية تصنيف الثقافات موضوعياً بوصفها أعلى أو أدنى، أو أفضل أو أصحّ، لأنَّ كل البشر يرون العالم من عيون ثقافتهم الخاصة، ويحكمون عليه وفقاً للمعايير التي اكتسبوها من ثقافتهم.
 
ثقافة التسامح ومنابعه
إنَّ إشاعة "ثقافة التسامح" تنطوي على الكثير من الحكمة، لأنها تجعل من المجتمعات تعيش بسلام بعيدة عن الصراع والعنف الذي يأتي بالخراب في المجتمعات، ولقد رصدت الدراسات الاجتماعية والثقافية العديد من مصادر التسامح، عند الشعوب، ولو أجرينا بحثاً بسيطاً لوجدنا أنَّ "الدين" الذي يعدّه البعض من مصادر العنف والتطرف، فيه العديد من التعاليم التي تدعو للعفو والتسامح، وفي القرآن الكريم، مثلاً نجد الآية: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، (البقرة:237)، وفي الحديث النبوي: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟ قالوا: نعم. قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك وتصل من قطعك)، وقد تجسّد حديث النبي (ص) هذا في موقف عظيم يوم "فتح مكة"، إذ عفا عن أهل مكة جميعاً وتسامح معهم، فضلاً عن أئمة المسلمين من أهل البيت، الذين اتصفوا بالعفو والحلم والتسامح، حتى سمي الإمام "موسى بن جعفر" بالكاظم، لأنه يكظم غيظه عند الغضب، وكذلك كانت صفات الكثير من الشخصيات الإسلامية والدينية. ويعدُّ "التراث العرفي" والثقافي للمجتمعات من المصادر المهمة في التسامح، إذ تؤكد الأخلاقيات والعادات الاجتماعية التي ترسخت عبر الزمن على الجانب التسامحي في التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات والإثنيات، ودائماً ما يحتل المتسامح مكانة مرموقة في المجتمع، ويتحدث الناس بسيرته، لذلك يحرص العديد من القادة والزعماء المحليين بالحصول على هذه المكانة من خلال مواقفهم النبيلة والكريمة. وفي الوقت المعاصر تعدُّ "حقوق المواطنة" في الأنظمة السياسيَّة الديمقراطية والليبرالية وفلسفتها مصدراً مهماً من مصادر التسامح، بعد أنْ أيدها فلاسفة سياسيون مهمون مثل: (جون لوك، وجون ستيوارت ميل، وجون راولز)، وهو أمرٌ أساسيٌّ لمجموعة متنوعة من السياسة والقانونية المعاصرة.
 
تجارب عالميَّة معاصرة
وهناك تجارب عالميَّة يمكن أنْ نذكرها في التسامح، مثلا شخصية "مانديلا" الذي يعدُّ "أيقونة التسامح"، إذ خاض مانديلا نضاله ضد نظام التمييز العنصري، في جنوب أفريقيا، من الانزلاق إلى كراهيَّة السكان البيض؛ بل على العكس، نجح بأخلاقياته العالية، وقيمه الإنسانية الرفيعة، في إقامة علاقات مع الكثيرين منهم، بل وأدى سلوكه الإنساني إلى دفع بعضهم لتأييد قضيته، ومناصرته في رفض التمييز العنصري. وفي تجربة أخرى أقيمت "قمة عالمية" للتسامح في دبي يومي 13 و14 /11/ 2019 ، وشارك فيها ثلاثة آلاف شخص من مئة دولة، ونظمها المعهد الدولي للتسامح التابع لمؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، وتشهد القمة استعراض تجارب الدول في التسامح والتوعية بأهمية احترام التعددية الثقافية والدينية والالتزام بقيم الحوار واحترام الآخر. وفي تجربة ثالثة في "كولومبيا" التي تعاني من الصراعات الاثنية والعرقيَّة، تدعو "لوسي جانيت بيرموديز"، رئيسة مجلس دولة كولومبيا إلى أنْ "نتشارك كبشر القيم الإنسانية في العلاقات المتبادلة، وأنَّ هناك أسباباً كثيرة تفرض علينا جميعاً أنْ نتسلح بالتسامح لمواجهة التعصب والتطرف".
 
                      باحث في الأنثروبولوجيا