الساحر الذي عبر الطوفان بقبعة من قش تجربة نصيف الناصري الشعريَّة

ثقافة 2020/11/16
...

فتحي عبد الله 
 
 
 
بدأ نصيف الناصري تجربته في الشعر من الكتابة في درجة الصفر، إذ لم يكن له أنموذج قد تعرف عليه، فمارس عليه سلطة في الأداء أو الرؤية، لأنه لم يكن متعلما ولم يكن للمعرفة اي دور في كتابته، فقد ادرك الشعر بفطرته الأولى عن طريق المشافهة، اما ما هو مكتوب فلا يعرف إلا شكله الخارجي فقط دون أية تفاصيل، وعندما اقترب من تجمعات الشعراء  أدرك أن الأمر صعب ومعقد، فلم ينقذ الشاعر تجربته إلا بعد أن تعرف على نمط قصيدة النثر في تجارب سليم بركات وأنسي الحاج وآخرين، فقد أدرك من خلال تلك التجارب أنموذجه الأول، وفي الكتابة أنتج نمطا مغايرا اعتمد فيه على شعرية التفاصيل الصغيرة التي تحدث له شخصيا، فكتب تجربته الأولى عن حبيبته الشفيعة وعن صديقه الشاعر جان دمو، وكانت نصوصا متميزة تخلص فيها من الحملات اللغوية التي كانت تسيطر على الشعر العربي، وتسبب نوعا من التضليل الدلالي، وقد تخلص كذلك من الاستعارات المستحيلة أو المجازات الذهنية التي تقلل المشاعر والانفعالات في النص، وقدم نصوصا قريبة الدلالة، وفي لغة تداولية ومجاز قائم على الخيال القريب، وعندما دفعته الحرب إلى المنفى دخلت الذات الشخصية في تجربة جديدة، ولأنه يمتلك ذاتا منفتحة وقابلة للاندماج والفاعلية بعيدا عن الموروثات الدينية والقبائلية وبعيدة كذلك عن الإيديولوجيا بكل أنواعها فقد اعتمد كل ما هو إنساني وتاريخي ومعرفي بدرجة كبيرة، ومن خلال تلك الرؤية الجديدة قدم نصيف تجربة شعرية تكاد تكون متناقضة تماما مع الأنموذج الأول وكان ذلك أوضح ما يكون في ديوانه (جمع الثمار مع الموتى) فبناء النصوص يكاد يكون واحدا في جميع القصائد.
 فالقصيدة مجموعة من الوحدات المستقلة التي تكاد تكون منفصلة وان حكمتها رؤية واحدة إلا انها تتكون من عناصر متنوعة تجمع بين ما هو يومي أو شخصي وتاريخي أو اسطوري، وتعتمد على الطقوس الموروثة من ثقافة العراق القديم ففي قصيدة (رضينا بالعابر والمنقوص في الحل والترحال) تتكون من ١٠مقاطع تتبادل الدلالة الشعرية فيما بينها، فالموت يسيطر على المقطع الاول حتى لو كان الموت فعلا يوميا.
(ارغمت زوجتي على الذهاب إلى مقابر المدينة لرؤية الموتى الذين يتحسسون بعضهم البعض في النهار)، وفي المقطع الثاني  يعود إلى ما هو شخصي وذاتي، ويبدو منفصلا عما قبله إذ يقول: يوم قاحل من ايام خدمتي في العسكرية أمضيته مع رهط من الذين كانوا اول الفارين حين بدأ هجوم العدو على فوجنا)، ثم يذهب الشاعر إلى يوميات زوجته (عادت من العمل جائعة وبدل أن تتغذى فتحت علبة بيرة وجلست تشاهد حلقة مسلسلها المفضل في التلفاز)، ثم عاد إلى ذاته مرة أخرى وهي ذات مركبة ولها طبقات كثيرة تتفاعل بشكل دائم بين ما هو واقعي وما هو اسطوري في لغة عميقة، ثم ينتقل إلى تجربة الموت وكأنه فعل حياتي  وإرادي، إذ يقول (انتفت حاجتي إلى وسيلة انقل فيها امتعتي إلى القبر)، وفي تعاملاته  للمصير الإنساني  وما يحدث للبشر من كوارث يكتشف الصراع الدائم والمستمر بين الجماعات البشرية ودور الآلهة في إذكاء هذا الصراع إلا أن الشاعر ينحاز بروحية شرقية إلى الخير (لماذا يلاحقنا الأعداء في  كل مكان ونحن لا قدرة لنا على اقتياد جنازة الميت  وعرفت الأجناس كلها سر انتقام بعضها من البعض الآخر).
أن رؤية الناصري الذي يمتلك طبقات متعددة من الوعي تأتي جميعها دفعة واحدة في نسق لغوي فريد حيث اللغة مفككة من حيث التركيب اي لا تخضع للنسق القديم رغم كثافتها الدلالية وتأتي على هيئة طوفان  في موجات متتالية تحمل كل موجة جميع العناصر الفاعلة، فهناك ما يرتبط بالواقع المعاش بكل تفاصيله ويومياته وهناك ما هو أسطوري يأتي على هيئة طقوس وهناك ما هو تأملي عقلي يدخل في بناء النص حتى يتقاطع مع ما هو فلسفي في نسق شعري شديد
التركيب.
أما التقنيات التي تمارس حضوراً فاعلاً في النص فهي:
 أولاً- الزمن الدائري، فالزمن لدى الشاعر لايتطور في خط مستقيم  ولكنه يسير في خط حلزوني تتجاور فيه كل الأزمنة وتختلط، كأن الحدث يقع الآن ويحدث كل ذلك في سهولة ويسر مثل قصيدة (ندفع لهم القروش من بيت
آلهتنا)
(وضعنا تحت امرتهم سرية من شبابنا جهزناها بالبال والفؤوس والاقواس لحراسة منازلهم وانعامهم في براريهم الخطرة تخلوا عن كل ميثاق وقعناه معهم في  الماضي وانتزع من كهنتنا أقنعتهم  والتعاويذ)، فالأفعال والأحداث تبدو في أزمنة مختلفة معظمها في الماضي إلا أن قوتها وفعلها الحقيقي في الحاضر والآني ومعظم نصوص الديوان تقوم على اختلاط الأزمنة مما يعطي للدلالة قيمة كبيرة 
وعميقة.
ثانياً- الخيال: والخيال في الديوان مركب أيضا منه القريب الذي يتعامل مع اليومي والشخص والوقائع ومنه الأسطوري الذي يعتمد على الطقوس الموروثة من بلاد الرافدين قبل الميلاد، وفي نصوص نصيف ما هو تقريري مباشر، والشاعر يقوم بالجمع بين كل ذلك في صيغة لغوية فائقة وبمهارة في الأداء بحيث تبدو وكأنها حالة واحدة.
ثالثا- اللغة: يمتلك نصيف لغة خاصة وهي لغة تراكمية تقوم على تفكيك  الجملة العربية الموروثة والاعتماد على المفردة في البناء، كما أن الشاعر لديه قدرة كبيرة في اكتشاف علاقات جديدة بين المفردات والجمل التي تم تخليقها على مزاجه الشخصي من دون الاحتكام للقواعد، وتسيطر تلك اللغة على تجربة نصيف كلها، وهي من أهم ما يميزه في 
الكتابة. 
رابعاً- الشكل: لقد ذهب نصيف في تلك التجربة إلى الشكل الأساسي لقصيدة النثر، وهو الشكل الفرنسي الذي يعتمد السطر الكامل، ونجح بدرجة كبيرة في اقتناص التجربة وان شابها بعض الاستطرادات حتى تكتمل أو تدوير الجملة وتقسيمها من دون حاجة إلى ذلك.
تجربة نصيف تنتمي بدرجة كبيرة إلى ما يعرف بالشعر الخام أي الشعر في عناصره الأولى  ورغم أهمية تلك التجربة، فإنها تحتاج إلى نوع من إعادة النظر. للتخلص من بعض العناصر التي لا تحقق الفاعلية المطلوبة.