ضد التذكّر

ثقافة 2020/11/17
...

ميادة سفر
غالباً ما ندون ذكرياتنا كي لا ننساها، نلتقط صوراً تذكاريَّة للحظات قد لا تسعفنا الذاكرة ذات يوم لتذكرها فتكون بمثابة أرشيف موثق لبعض حياتنا، وأحياناً نضطر للاستعانة بآخرين لتذكر فترات محددة من حياتنا لا سيما مرحلة الطفولة، من منا لم يسأل والديه عن تلك المرحلة، حتى أننا نستمع مدهوشين من تصرفات قمنا بها ولم تحتفظ بها ذاكرتنا.
 
 
ونحن نفاضل بمحاولة لتنظيف ذاكرتنا بين الأحداث السعيدة وتلك المؤلمة، ترانا نحتفظ في مكانٍ ما بتلك الأخيرة المؤلمة الموجعة التي تركت ندبات في القلب والذاكرة، فنتذكر من أصدقائنا أكثر المواقف إحراجاً وإزعاجاً، أما الأهل فنذكرهم بتوبيخهم لنا وصراخهم بسبب تصرفات قمنا بها، ونغفل عن تلك المواقف المرحة والسعيدة، وعن أيادٍ مُدَّتْ لنا في لحظة ما.
لا يقتصر الحذف أو الحفظ على ذكرياتنا الشخصية، بل يمتد النسيان ليصل حد التهميش لأشخاص وشخصيات سواء ثقافية أو فنية أو سياسية أو سواها، كل في مجاله حين يلجأ أعداء المهنة لإبعاد أحدٍ ما عن الأضواء وحجبه عن الإعلام والجمهور ليصير طي النسيان ويمحى من الذاكرة الجمعية، لأسبابٍ شتى ليس أولها الحلول محله، ولن يكون آخرها الغيرة من نجاحه والخوف من التأثير 
عليهم.
للدول كما الأفراد ذاكرتها الجمعية، لذا تراها تنبش في ماضيها باحثة عن لحظات مشرقة تارة وحزينة تارة أخرى، لتحتفظ الأجيال القادمة بها، أولسنا نحن من نحيي ذكرى هزائمنا ونكساتنا، نفرد لها الصفحات والشاشات وساعات من البث لتذكير الشعوب بها، وهو ما يزيد حالة الإحباط والشعور بالفشل الذي تعاني منه، بالرغم من كل المعاناة التي تسببت بها لنفسها ولغيرها من الدول، تحاول بعض البلدان بعد أنْ سكتت طبول الحرب أنْ تتذكر تلك الحوادث المؤلمة، بإحياء ذكرى انتصار هنا وهزيمة هناك، مرددين أرقاماً تشي بأعداد الضحايا الذين قضوا في أتونها، والغريب والمقلق أنَّ تلك الذكريات لم تكن رادعاً للحد من الحروب والقتلى ونشر السلام، فمنذ قتل قابيل أخاه هابيل "حسب ما تقول الأسطورة" ونحن نمجد القتل ونحتفي به.
تحتاج ذاكرتنا من وقتٍ لآخر "لفرمتة" كما أجهزة الكمبيوتر، وإعادة تشغيلها لتعود بنشاطٍ أكبر، حين لا فائدة من تذكر مواقف موجعة لن تزيدنا إلا توتراً وقلقاً وإحباطاً، بينما تدفعنا لحظات النجاح إلى الأمام باحثين عن أدوات تعزز تفوقنا وتحافظ عليه وتطوره، ولو فكرنا بالأعمال التي لم ننجح بها، فلتكن حافزاً لنبحث عن أسباب تلك النتيجة ونصلحه، بدل أنْ "نضع الحزن في الجرن" ونبكي ونتحسر عليه.
إنّ الإنسان بطبعه يحاول أنْ يضفي قيمة كبيرة لكل الأشياء التي فقدها أو فشل بها، وبأنها غير قابلة للتعويض، ولا يعطي قيمة لما بقي لديه ولقدرته على التحسين، وهو ما يؤجل تقدمنا ويسدّ أمامنا أبواباً عديدة، لذا لا بأس من نبش الذاكرة بين حين وآخر، ورمي الذكريات البالية منها، والبدء من جديد، والثقة بقيمة ما بين 
أيدينا.