الخيال متاهة مقنعة

ثقافة 2020/11/17
...

   محمد يونس
 
من ضرورات تفسير الخيال هو التفريق بين المتخيل النسبي والمتخيل غير نسبي، فذلك أمر يتيح لبعد المقارنة بينهما أن يصل الى نتائج مضمونة بالنسبة له، او الخيال الموحد كما سمّاه رسكوت جيمس والخيال غير الموحد، وهنا حيث يمكن القول إن الخيال النسبي هو ما يؤشر حالة يمكن تسميتها بحسب ما درج في الاصول النقدية بالخيال المحدد، وذلك الخيال تفرضه علة او سبب معين، ولا يكون منفلتا وحرا كليا، فحريته ترتبط بالسبب الادراكي، وتحديد ذلك الخيال يقرره الوعي، لذا يمكن تسميته بالخيال الواعي، وهنا ثمة ما نشير اليه بأن ذلك الخيال المقيد إنسانيا سيوسولوجيا تفرضه النوازل الإرادية والذي ينتهي بنهاية مقنعة احيانا، وفي أخرى ينتهي بعد عودة الإدراك إلى موقعه لملامسة الوجود الحي، وهنا وحدة الزمن تميل إلى العدم ليبدأ زمن الواقع بعد انتهاء زمن التخيل، وذلك الخيال لا يفرط عادة، وهناك خيال يختلف زمنيا،إذ يستوجب أزمنة نفسية أو دائرية تمكن المتخيل التحرر كليا بالتخلي عن واقعه، وهنا تكون نسبة اللاوعي كبيرة، وحرية هذا الخيال ممكن أن تكون بلا معيارية، الا إذا كانت استجابته للذات المتخيلة لسبب ما، وإن الأدب بقي تاريخا طويلا في سيرورة يلتزم الخيال المحدد او المخيال البشري، لكن عودة ما بعد الحداثة إلى الميتافيزيقيا واللامركزية أتاحت لحرية الخيال التوسع وازدياد العمق حتى صار الخيال متاهة لذيذة والمتعة مختلفة، واختفت وانقلبت فيه المعايير، فصار القبح بديلا للجمال كما في سينما ما بعد الحداثة والفن السريالي، وفي الادب صار المعنى ملابسات ملغزة والعلامة لا توجه اشاري يحيل إليها، والدلالة أعادت إنتاج نفسها بالصورة التي تحقق توافقا مع المضامين المختلفة، لكن أدبيا هناك من ما زال يمشي برجليه ولا يركب بساط الريح ولا يتنفس من خلال كالفينو أو الآن روب غرييه، ويستغرب كيف كتب كلود سيمون رواية كل فصل منها بقلم لون معين.
 
أصول الخيال المتبعة 
النسب الكبرى للخيال واسعة جدا، ولا يمكن تحديدها بسهولة، إذ تمثل جزءا من الحياة اليومية، ويمكن موازاة الخيال بالمدركات العامة، رغم عدم ثباتهما في جميع الاحوال، فنسب الخيال البشري مختلفة، وليست كما بعض المدركات الطبائعية التي تزدحم بها الحياة، ويشكل خيال الوجود البشري مادة دسمة فنيا وادبيا، لكن قد استهلكت تلك المادة كلاسيكيا ومن ثم في ابعاد من الواقعية، وبها بقيت الآداب والفنون تكرر معاني مختلفة الاشكال لكنها بذات المضامين، وكانت نسب الخيال المتحررة اكثر قليلة جدا، ولا تفي بالغرض الفني صراحة، وقد انفرد الشعر بحرية اوسع واعمق، ومن ثم زحف ذلك البعد الى الكتابة الروائية، وطرأ ما يسمى جزافا بشعرية السرد، والتي هي النفس الادبي لدى حس المؤلف بشاعريته، وقد توسعت مضامين الشاعرية عبر تطور الخيال الانساني وفتح حدود قيوده الى افاق ارحب، ولكن بقي نفس المحافظة على ضفة الواقعية بجدارة كبيرة يلمس، ولم تغادره افاق الفن والادب الرحبة الجديدة، ولا تخلت عنه أبدا.
 
المبدأ الخلاق للخيال
في بداية القرن العشرين شهد العالم ثورة كبرى،إذ تغيرت علاقة الانسان بالآلة وعلاقته بوجوده، وهذا ما غير الكثير من المفاهيم الادبية والفنية، وقد لعبت طروحات فرويد وادلر ويونغ ايضا الدور المهم في تهييج الخيال أكثر وأكثر، وكما أسهمت حركات كبرى من مثل الدادائية من فتح المجال للخيال لتنشيط اللاوعي الى حدود ضمنا جمالية، ولكن من دون مغادرة ضفة الواقعية كليا، وقد نما الخيال الفني والادبي بكيفيات متندرة ومتحررة ايضا، فالتجريد كحركة فنية اعتمد على المنطق الروحي للفن، وأسهم كاندسكي وبول كلي بشكل مباشر في طرح خطاب فني مثير بشكل واسعة لصفة الخيال،إذ لاوجود لتفسير مباشر مطلقا، وهذا يعني ليس كسرا للمنطق العام بل تحديثه وفق متطلبات روح العصر، وقد تغير ايقاع الحياة كثيرا، ونشطت حرية الخيال الابداعي، وكان الجاحظ اول من لامس ذلك، ويعد هو الصيرورة المثلى لتنشيط الخيال أدبيا، ويعد جيمس جويس في العصر الحديث احد أهم الأعمدة المثلى أدبيا، وقد اتاحت ما بعد الحداثة وقبلها آخر عصور الحداثة للفنون والآداب التماس قيم جديدة ذات تفسيرات مثيرة، وفعلا كانت هناك استجابة واضحة للخيال الحر.