أوروك وزحمة المنافي

ثقافة 2020/11/21
...

 علي ثجيل 
 
ليس هنالك أضيق جدراناً من صحراء تجوبها وحيدا.
حين يكون رأسك خارطة تتشابك فيها حدود المدن.. تفقد لحظتها محطتك التي تروم.. وطنك الذي يعشعش في كل الحدود.. إلّا حدودك أنت.. هكذا كان يوم تجولت بين صفحات روحه.. صحراء تضيق ورأس تتشابك فيه خرائط المدن.. ولا محطة تلمّه.. ولا وطن يسع قوافل الجوع التي تسافر في تضاريسه السمراء التي عبّدتها منافي الحياة بطرق يابسة تعز عليها دموع ترطب يباب روحه وروح تلك القوافل من الجياع.
أهداني ابن الشيال سلالة تعبه منذ زمن مضى.. أنا الكسول جداً في قراءة الكتب.. والمقرف حدّ المرض في ابتداع الأفكار.. وكأن العالم حولي ينتظر آخر إصداراتي الهشة ليعيش بسلام.
تصفحته مقلباً فيه من دون اكتراث للصفحات التي ترفرف طائرة.. لمحت صورة على هيئة عبوة تنفجر في وجهي البليد.. توقفت وعدت أشرب الكتاب من الغلاف الى الغلاف.. فضولٌ مجنونٌ دفعني أن أدقق في كل حرف كتبه هذا المجنون الذي رمته السماء في حضن الناصرية.. كنيزك لم يفقد طاقته التي اعتاد غلاف الأرض الغازي أن يبخرها في كل النيازك.
إذا كان في مخيلتك بتصفحك لـ (أوروك يا سليل التعب) أنك تتصفح كتاب شعر.. فأنت واهم تماما.. من السهولة أن تقرأ قصيدة وتسافر في عالمها كيفما يريد لك خيالك أو خيال الشاعر أحيانا.. لكن من الصعب عليك ان تمسك مشرطاً وتبدأ بتمزيق جرحك النازف وأنت لا تعي أنك تُوسع في حدود الجرح.. وكأنك تتلذذ بوخزات المشرط كلما غار في عمق الجرح.
هذا ما يفعله ابن الشيال حين تتصفح قصائده.. أعني جراحه.
لأول مرة أجد شاعرا يهديك مشرطا ويشترط عليك تمزيق الجراح الواحد تلو الآخر.
ستة عشر جرحا تنزف بين صفحات جسد الكتاب.. وكأنك تتجول في حقل من الألم بكامل قواك العقلية بين (خبال) هذا العنيد الجبار في الشعر والطيب حد السذاجة في الشارع والمقهى.. ستجد أمامك ماردا لا يُصارع في زحمة الحلبات.. وليس تلك الروح التي يهزمها جنح فراشة حين تبللها قطرة مطر طارئة.
 
في جرحه الأول (أوروك)
يفقد ابن الشيال زهده الذي رسمته على ملامحه خيبات الجوع.. ويعلنها علنا أنه السيد المتربع في اقتناص الناهدات بعيونه التي لا تطرق سوى أبواب المشاحيف الطافية بلا بلّام.. فيعتد كعادته بأنه سيَفكّ الشفرات في خارطة النساء.. رغم خيباته معهن في كل ميادين العشق.. وهو يودّع الجمال بكامل إرادته بعد أن يكون ملء يديه.. لكنه العنيد وسط روض القصيدة.. ويريد توريث عناده لأصغر السلالات مخاطبا اياه:
(يابن العيون التي تقتنص الناهدات)
ثم يرمي له تعويذته بوعدٍ قد لا يتحقق:
(سيعمدك ننار.. إله الذين يجيدون القبل الطويلة).
رغم انه مازال لم يجد حلاً وافيا للشفة السفلى.. التي أنهكتْ عيونه من دون أن يجد صورة لرسمها.. بطريقة تقنع روحه الطافية في رضاب الخيال الذي لم يجرب ارتشافه خارج حدود مرارة المدينة.
 
في جرحه الثاني (ابنة الله)
تشعر أنه يختزل الناصرية في حرب طويلة.. بلا أرض حرام.. ولا استراحة لمحارب يلتقط فيها أنفاس القبل المستعجلة.. يناديها دوما بابنة الله المدللة.. لكنه دلال بيوت القصب.. وغرف الطين.. ومواويل الوداع.. وهي تودع أرتال صغارها قرابين لكذبة الوطن الذي يبحث عن علم بلا ألوان تذكرها بخيبات السلالات التي سرقت اول قطعة صلصال من زقورتها.. ثم أطرته بثلاثة ألوان.. لتمحو منه هوية أول مشحوف صارع الطوفان.. كان يرى فيها نواح وبكاء آلهة الحب والخصب (إنانا) على مصير البشر المفجع .. ويرى في نفسه إله الحكمة (إنكي) الذي يخرج عن إجماع الآلهة في حرب هي الأولى لإنقاذ بذرة الحياة على هذه الارض .. لذلك كانت الناصرية في عينيه تلك المدللة التي لا تطرح سوى القرابين والحروب ليحيى غيرها آمناً.. فيجسدها باختصار يختزل تاريخ العويل وسط القصب:
(ان الناصرية ابنة الله المدللة
لذلك دحرجتني الشوارع
نحو السواتر
فارتطمت بالخوذ المتناثرة
حول روحي).
لنْ تغادر علي الشيال دوامة الحروب حتى في أقصى حالات السلام.. وكأنه ولِد في ساحة حرب وسيموت فيها.. رغم هشاشة قلبه الطري.
 
في جرحه الثالث (احتفائية لتتويج الانكسار)
وهو أعظم جراحه وأكثرها نزفاً.. ترى الشيال يسافر بك بعيدا لعالم من الضياع.. عالم لا هدوء فيه غير الفقدان.. وكأن هذا الرجل جُبِل على فرْك راحتيه بعد كل مصافحة للأرواح التي تمرّ بذاكرته.. يوهم نفسه بأنه يملك هذا العالم بكل أصنافه.. لكن كل ما في حوزته هي محطات للرحيل.. هو يراها هكذا ولا يعبأ.. وكأنه يتلذذ بموته:
(لك أجنحة للتكسر
لك بنادق للهزيمة
لك لسان للصمت
لك مكتبة لأرصفة الشوارع
لك حبيبة للانتظار 
لك أم للفجيعة)
ولك.. ولك.. ولك.. ويستمر في رسم صور الفقدان التي تشتت أجزاءك الواحد تلو الآخر.. وكأنه يستبق لحظة الوداع قبيل أي لقاء ترتجيه.. هو يتعاطى الحزن كالأفيون ولم يندم على هذا التعاطي.. لك.. لك.. ولك.. وهكذا يرسم خارطة طريق انكساره.. ويوزع نسخها بينه وبينك وبين الفجيعة في خاتمة للقصيدة.. يتوج فيها لحظة انتصاره التي يسميها انكساراً:
(نغفو على جرح الجنوب
أنا وأنت والفجيعة 
كي نتوج الانكسار) 
جرح الجنوب يلازمه كظله في كل لحظات الانكسار.. جنوبيته معتقة ومتعبه له وللآخرين بمرارتها.
 
في جرحه الرابع (القادم بلون الهواء)
يخرج ابن الشيال من عباءة مفردات الجنوب التي أنهكت كاهل ذاكرته.. لينحت صوراً تتشظى بطرق ليست التي عهدناها في بقية الجراح.. مع ذلك لو تأملتها بعمق.. ستجد أنه لم يفكر لحظتها في التقاط أنفاسه خارج حدود هواء الجنوب.. كان يحاول صناعة مملكته بطريقة مغايرة.. لكنه يفشل.. فأرضه (الصّبخة) تطارده مهما ارتاد بيادر المدن :
 (فطوبى للبحار
وهي تقذف نافذتك
بالسفن المحطمة
كي توقظ النوارس
من نبوءة الزهور).
الحطام يطارد خيال قصيدته وسط أعظم البناءات الرصينة التي تزهر بها روحه في تلك اللحظات.