ما لم يجسّده تمثالا المتنبي في بغداد

ثقافة 2020/11/21
...

 عبدالزهرة زكي
 
تمثالان في بغداد لشاعر واحد هو أبو الطيب المتنبي، وهذه سابقة نادرة في تاريخ ثقافتنا الوطنية. الأول هو تمثال يتصدر حديقة صغيرة أمام المكتبة الوطنية من عمل الفنان محمد غني حكمت، فيما اختار فنان العمل الثاني، سعد الربيعي، مكاناً مهملاً على دجلة ليضع فيه تمثالاً للمتنبي، فأحيا التمثالُ المكانَ وأكسبه قيمة استثنائية.أبو الطيب نفسه يضفي قيمة خاصة لكل ما يمتّ بصلةٍ به، وبهذا يتشارك الشاعر مع النحات في خلق معنى وجماليات التمثال والمكان الذي ينتصب فيه.
كلا التمثالين من أفضل التماثيل في بغداد، بعض ما يتحدث به التشكيليون والنقاد عن أخطاء تقنية تشكيلية في التمثالين لم تقلل من قيمتيهما ولم تنل من علاقة المشاهدين بهما.
لكن في التمثالين ما سها عنه النحاتان، إنه سهو واضح لا ينقص من القيمة النحتية لكنه يعبّر بصيغة ما عن مشكلة إقدام فنان، أي فنان، على إنجاز عمل نحتي لرمزٍ ما إنما من دون إحاطة ثقافية وتاريخية بطبيعة ومزايا الرمز الشخصية.
في التمثالين يقف المتنبي شامخاً بوضع من الواضح فيه أنه كان يقرأ الشعر، لكن من المعروف أن المتنبي كان قد اشترط على سيف الدولة، الأمير الحمداني المثقف، ألا يقرأ الشعر في مجلسه وهو بالوضع التقليدي الذي دأب شعراء المديح على الوقوف فيه، وقوف الشاعر المادح في حضرة السياسي الممدوح الجالس. لقد اشترط المتنبي أن يقرأ قصائده جالساً، لم يرفق هذا الاشتراط بتعليل صحي أو إعاقة جسدية، لم تكن هنالك من حاجة للتبرير، شخصية المتنبي واعتداده بنفسه معروفان، وبالمقابل كان سيف الدولة من النضج والحكمة أن يتقبل الاشتراط بطيب خاطر. وقد لا نتوقع أن أميراً أو ملكاً أو خليفة كان سيقبل بمثل هذا الاشتراط، وإذا ما قُبِل فلدواع صحية أو جسدية لا يكون معها الجلوس شرطاً وإنما مراعاة. الاشتراط على ملك هو في أساسه محال.
لكن المتنبي اشترط، وكان ذلك حدثاً نادراً بقيمته ودلالته، وهو بعض من استثنائية المتنبي نفسه في تاريخ الشعر العربي، كما هو أثر مهم واستثنائي في ثقافة الملوك والخلفاء والأمراء، وكان من المقترض بالتمثالين ألا يتجاوزا هذه الأهمية. 
كنت قبل أيام أقرأ في كتاب للجاحظ (التاج في أخلاق الملوك)، وهو كتاب غريب بين مجمل تراث مؤلفه. في (التاج) يشرح أبو عثمان بتفصيل واسع آداب صلة الملوك بمن يكونون في مجالسهم من زائرين وندمان وخدم وصلة هؤلاء بالملوك. يمكن وصف الكتاب بلغة عصرنا بأنه كتاب في فن الأتكيت الرسمي كما خبِره الجاحظ من روايات ملوك الفرس ثم خلفاء العرب. يركّز مستهل الكتاب على دخول الناس من مختلف الطبقات على الملوك والوقوف في حضراتهم فيقول المستهل: "إن كان الداخل من الأشراف والطبقة العالية، فمن حق الملك أن يقف (الداخل) منه بالموضع الذي لا ينأى عنه (عن الملك)، ولا يقرب منه، وأن يسلم عليه قائماً. فإنْ استدناه، قرب منه، فأكبّ على أطرافه يقبلها، ثم تنحى عنه قائماً، حتى يقف في مرتبة مثله. فإن أومأ إليه بالقعود، قعد. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة. وإن سكت، نهض من ساعته، قبل أن يتمكن به مجلسه بغير تسليمٍ ثانٍ، ولا انتظار أمرٍ. وإن كان الداخلُ من الطبقة الوسطى، فمن حق الملك، إذا رآه، أن يقف (الداخل)، وإن كان نائياً عنه. فإنْ استدناه، دنا خطىً ثلاثاً أو نحوها، ثم وقف أيضاً. فإنْ استدناه (ثانيةً)، دنا نحواً من دنوّه الأول، ولا ينظر إلى تعب الملك في إشارة أو تحريك جارحة؛ فإن ذلك، وإن كان فيه على الملك معاناة، فهو من حقه وتعظيمه".
إنه أتكيت معقد وفيه من العناء المبالغ على الملك ومن الإذلال المفروض على الزائر ما تعفّ عنه النفوس الرفيعة فتتفاداه. في مثل هذه التقاليد وقف شعراء وعلماء ومغنون وقادة وفرسان وعوام بما كان يعزز التقاليد ويرسخها وقد يبالغ بعض صغار النفوس فيها فيزيدها، لكن المتنبي شأن آخر. 
كان سيف الدولة أول سياسي حاكم يلتقيه المتنبي وتنشأ الصلة ما بينهما بالعمق الذي صنعه الرجلان معاً؛ السياسي، والشاعر. إنها علاقة تكافؤ إنساني تتقابل فيها السلطة، بمهارة السياسي وحذقه، مع الشعر، برفعة الشاعر وكبريائه.
بحدود علاقة المتنبي/ سيف الدولة كان السياسي يحتاج إلى الشاعر، وكان الشاعر يحتاج إلى السياسي. هذا التبادل في الحاجات لم يخلق صلة نفعية تخادمية، لكنه خلق علاقة صداقة، لم تتكرر، وقد نتجت عنها المحبة الخالصة ما بينهما؛ المحبة التي يمدح بموجبها الشاعر من دون أن يتزلف أو يتملق أو ينحط، وهي المحبة التي يقبل بموجبها السياسي أن يسمع من الشاعر إطراءه لنفسه بأكثر مما يطري به الأمير:
سيعلم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا    بأنني خيرُ من تسعى به قدمُ
يوصي الجاحظ قارئ كتابه بضرورة مراعاة آداب مجالسة الملوك فيقول: إن "من حق الملك، إذا أنس بإنسانٍ حتى يضاحكه ويهازله ويفضي إليه بسرّه ويخصّه دون أهله، ثم دخل على الملك داخلٌ أو زاره زائر، أن لا يرفع إليه طرفه، إعظاماً وإكراماً، وتبجيلاً وتوقيراً، ولا يعجب لعجبه. وليكن غرضه الإطراق والصمت وقلة الحركة".
لكن العلاقة التي جمعت ما بين الأمير المثقف والشاعر الاستثنائي هي في الخارج من هذه التقاليد المهينة، فقد كانت علاقة صداقة نادرة ومتكافئة بمحبتها، ولا صداقة بلا تكافؤ. لم يهج المتنبي سيفَ الدولة مطلقاً بعد مغادرته حلب، بخلاف ما حصل بعد مغادرته مصر وهجائه المقذع والمتكرر ضد كافور، ولم يعمد سيف الدولة إلى ترهيب المتنبي بعد افتراقهما.
في القصيدة التي ختمت علاقة المتنبي بالأمير (واحرَّ قلباه)، وهي خاتمة عجّل بها حسّادُ المتنبي وكارهوه من شعراء ونقاد ولغويين، كان المتنبي ينتقد سيف الدولة، وكان المتنبي فيها أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد، لكن كان هذا في مجلس سيف الدولة وأمامه، وليس بعد افتراقهما:
أُعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً أَن تَحسبَ الشحمَ فيمَن شحمُهُ وَرَمُ
وما انتفاعُ أَخي الدنيا بناظرِهِ
إذا استوت عندهُ الأَنوارُ والظُلَمُ
البيت الثاني يمضي بالنقد الذي تضمنه البيت الأول إلى مستوى الهجاء، يخاطب الشاعرُ الأمير قائلاً ما معناه إنك لا تميّز بين الشاعر والمتشاعرين (من الحاضرين وممن يفدون إليك)، فما نفع بصرك وبصيرتك بعد هذا؟
في التمثالين البغداديين تتجسد كبرياء الشاعر حتى وهو يقرأ الشاعر واقفاً، لكن كان جديراً بالفنانين استلهام ترفع المتنبي على الوقوف في حضرة ملك أو أمير واشتراطه قراءة الشاعر بوضع الجلوس المتكافئ.