أندرسون وفرخ البط القبيح

ثقافة 2020/11/22
...

 نهى الصراف
 
سبعون عاماً هي كل ما منحه القدر لهانس أندرسن ليترك أثر خطواته على هذه الأرض الحزينة، لكنها لم تكن خطوات على ماء الرتابة واللا جدوى، فقد رسم هذا الرجل في أثنائها خط سير شفيفاً وحالماً لسيرة شخصيات حكاياته الخرافيَّة، سيرة تليق بطفولة حالمة مع كوبٍ كبير من الحليب الرائق تكمل فيه أم حنون أشرعة سرير آمن يمكن أنْ تؤمن فيه لطفلها العزيز ساعات مطمئنة من النوم.
أندرسن، الحكواتي الدنماركي الذي عقد أواصر المحبة مع أطفال هذا العالم بحبلٍ طويلٍ من الكذب الجميل، سطر كذباته على مدار قوس قزح بملايين الألوان فصنع من مادة طفولته الخام حكايات ساحرة قد تأتي على مقاس طفل صغير يسكن كوخاً بسيطاً في ركنٍ قصيٍ من العالم أو أمير حقيقي تربى في حضن قصر ملكي، الجميع حصل على نصيبه من السعادة والدفء الذي يحتاجه، حكايات أندرسن الخياليَّة، جنياته اللطيفات وأميراته الحسناوات كانت جواز مروره السريع إلى قلوب هؤلاء الصغار فقراء وأغنياء على حد سواء.
طالما ارتبطت حكايات أندرسن بفصل الشتاء، حيث اختار عن غير قصد ربما أغلب ثيماته مصاحبة لأجواء الفصل الذي يمثل القسوة والفرح في آنْ معاً؛ القسوة على أبطال حكاياته من الفقراء.. والفرح لقرائه من الأطفال الذين يحتفلون في كل دورة لفصول السنة بأجمل أعيادهم على أنغام موسيقى الثلج وصرير الجليد في ساحات التزلج وهم يداعبون أنف رجل الثلج ويقضمون كعكة العيد، من دون أنْ يضيعوا فرصة ذرف الدموع على حكاية الفتاة الفقيرة «بائعة أعواد الثقاب»، ليواصلوا بعدها احتفالهم داخل منازلهم الدافئة وقد تركت القصة الكئيبة حمرة في خدودهم الضاجة بالحياة ولمعة ذكاء في عيونهم.
 كـان هانس كريستيـان أندرسن، الكـاتب والشـاعـر الدنماركي ذائع الصيـت الـذي رحـل عن عالمنـا في العـام 1875، في طليعـة الـرواد الذيـن آمنوا بعوالـم الحكايـات الخـرافيـة السحرية ولأنه كان يؤمن بأنَّ عالمه الخرافي أجمل وأفضل من عالم الواقع الذي عانى فيه من شظف العيش واليتم المبكر.
تؤكد بعض المصادر التاريخية أنَّ أندرسن هو أول من ابتدع أنسنة الحيوانات في قصصه التي ألفها للأطفال؛ فحكاياته العذبة التي كتبها عن «الحورية الصغيرة»، «الأوزات البرية» و»فرخ البطة القبيح»، استمدت استمراريتها وخلودها من خلال العلاقة الحميمة التي أوجدها الكاتب بين شخصيات قصصه من الحيوانات المغلوبة على أمرها والصغار الذين أهدروا أنهاراً من الدموع على صفحات هذه القصص، في محاولة حثيثة منهم لمساعدة الحيوانات الناعمة التي كانت تتحدث لغتهم وترتدي ملابسهم.
وقع الملايين من الأطفال في جميع أنحاء المعمورة في غرام حكايات أندرسن، أما هو المؤلف والحالم، فمن المؤكد أنه كان سعيداً وراضياً كونه المواطن الأول الذي منح تذكـرة دخول مجانية إلى تلك العوالم السحريـة. وبالطبع، لم يكن طريـق الشهـرة والنجاح ممهداً للطفل المـوهوب هـانس في محاولاته الأولى في الكتابـة، لذلك حين كان يسأل عن سيرة حياتـه تأتي إجابته بقـدر بساطـة وروعـة حكاياتـه، فكان يقـول: «اقرأوا حكاية فـرخ البط القبيـح»! في إشارة إلى قصته الخالدة التي تتحدث عن النجاح الذي يعقب المشقة والمعـاناة؛ فالحكاية تتحدث عن فرخ بط قبيح كان منبـوذاً من أقرانه ولم يلق المودة من شقيقاته البطات فكان يعاني من نظرات الازدراء نظراً لقبحه وضخامة حجمه، هكذا، راح يتنقـل من مكانٍ إلى آخر بحثاً عمن يهتم به ويقدره، لكنه عانى طويلاً من نظرات الازدراء من جميع الطيور والحيوانات، إلى أنْ كبر واكتشف أنه كان في حقيقته بجعـة جميلة بيضاء وليس فرخ بط قبيحاً، فتباهى بنفسه بين أترابه كبجع جميل. هكذا، آمن أندرسن بأنَّ لكل مبدع حكاية فرخ البط القبيح الخاصة به، وكأنه كان يقول في نفسه: «ترى، كم من بجعة جميلة لا تعرف قدر نفسها؟».
لم تمثل كتبه فرصة للتسلية وقضاء الأوقات الجميلة في التفكر في عوالمها الساحرة، بل كانت تتضمن الحكمة والمعرفة ايضاً. حتى يومنا هذا، ترجمت كتبه إلى معظم لغات العالم وأعيدت طباعة ما يقارب 150 قصة لملايين النسخ. ولعلَّ كل مولود جديد إلى هذا العالم سيحظى في ليلة ما بلقاء شخصية من شخصيات الكاتب المحببة وهي تتلو عليه حكاياتها المسلية، الحكاية التي تغذي خيال طفل سيواجه عاجلاً أم عاجلاً صخرة الواقع ليتكئ عليها أو ليصدم رأسه بحواشيها المدببة.
أما كريستيان أندرسن فقد أوصى وهو على فراش الموت بأنْ يكون إيقاع وزمن الموسيقى التي تصاحب جنازته مناسباً لخطوات الأطفال الصغيرة، حيث كان يتوقع أنْ يكون غالب مشيعيه لمثواه الأخير من الأطفال.