علي وجيه
ماذا تبقى من الكلام «العظيم» عن الموضوعات «العظيمة»؟
أعني: موضوعات مثل الحياة والموت والزمن والوجود والجنس والضمير والأخلاق، المكتوبة بأناقة ومعالجة لغة مَن صنعوا ضمير البشرية، من هوميروس مروراً بشكسبير وليس انتهاءً ببورخيس، ومن أنخيدوانا وكَلكَامش مروراً بالجاحظ وليس انتهاءً بنجيب محفوظ؟
هل عادت البشرية بحاجة إلى الكلام «الكبير» عن الموضوعات «الكبيرة»؟
هذا ما ستسأله لنفسك، وأنتَ تكمل المجلّد الثالث من «كفاحي» للنرويجيّ كارل أُوفه كناوسغارد، الذي يباغتك بعنوان مُغاير، لا علاقة له بهتلر وسيرته.
كاتبٌ نرويجيّ، يكتبُ سداسيّة عملاقة، رأتها العربيّة بثلاثة مجلدات (التنوير 2017 – ترجمة: الحارث النبهان)، وطوال الكتاب تسألُ نفسك: أين الكفاح بالموضوع؟ وأين السيرة المُرتجاة باحتدامها؟
تسألُ نفسك هذا السؤال لأنك خارجٌ من اللغة الكبيرة، حيث أوديسيوس يصارع الآلهة ليعود لبينيلوبّي، وكَلكَامش يحتضن أنكيدو المدمّى، والكتّاب العرب التراثيّون يعلّمون الملوك الأخلاق، لكن كناوسغارد له رأيٌ مُغاير، وهو أن تكون المعالجة بحدّ ذاتها موضوعاً، بحيث يُقارن بسباعيّة بروست، والأعمال الملحميّة الأخرى.
كناوسغارد الهادئ، يكتبُ وليس في ذهنه أيّ قارئ، خُذ 500 كلمة بوصف قميص، خُذ فصلاً كاملاً عن طفولته، وركوب الدراجة، والذهاب لبيت الأصدقاء، خذ صفحتين بوصف العيون، أو الحديث لبرورتريه شخصيّ لرامبرانت شاخَ فيه كلّ شيء سوى عينيه، المعالجة التي تجعل كل الأشياء البسيطة، المُحتَقرة في الأدب العالي، هي
المتن.
وأن يكون الأسلوب هو الذي يرفعُ هذه الهوامش إلى أعلاها.السداسيّة التي تُترجم بقيّتها حالياً إلى العربيّة، هي عن لا شيء محدد، فهي ليست حتى عن كناوسغارد وإن كان بطلها، وليست عن الموت رغم أن جزءها الأول حمل عنوان (موت في العائلة)، وليست عن الحب رغم أن جزئيها الآخريْن بعنوان (رجل عاشق)، نعم هي عن الموت والحب، لكن ليست بطريقة الكتب التي قرأناها.
هل انتبهتم سابقاً، أننا محاطون بالموت والأشياء الميتة على الدوام من دون أن ننتبه؟ الكرسي الذي تجلس عليه حالياً ميت، القميص الذي ترتديه ميت، والجبل والتراب وكل شيء تقريباً سواك وسوى بعض المخلوقات الحية الأخرى، هذا ما ينبّهك له كناوسغارد، عينٌ ثالثة ترصدُ كلّ لا شيء لتجعله شيئاً كبيراً، عين ثالثة تبحث فيما أهمله الكبار، لتصنع من الأشياء الصغيرة متوناً
عالية!