الشعر ومتاهة الحياة الخطرة في {هذا الصندوق رأسي}

ثقافة 2020/11/23
...

د. سمير الخليل

 
 
إنَ ما تقدمه المدوّنة الشعرية (هذا الصندوق رأسي) الصادرة عن الاتحاد العام لأدباء العراق- بغداد 2018، للشاعر "الوليد خالد علوان" هو أكثر من طمأنينة بسيطة لأولئك الذين طالما تخوفوا من تحول الواقع إلى ضحية لطغيان النخب السياسية والبيروقراطية والإرهابية والمليشياوية، وكما يصرّ الشاعر في كل قصائده، فالواقع هو دائماً مكان أكثر تعقيداً من أن يختصر بعمل شعري، وكائناً ما كان الواقع، متاهة، أو موسوعة أو سوقاً تجارية ضخمة (بازاراً) أو مسرحاً، فهو ذلك المكان حيث لا بد للحقيقة والخيال أن يندمجا ببساطة، ويلجأ الشاعر علانية إلى الدفاع عن تصورات الذاتية الشعرية التي كانت قد دفعتها إلى الخفاء البلاغة الطاغية لحركات الإسلام السياسي. 
ومع ذلك، فالواقع هو كذلك المكان الذي يستطيع فيه الأفراد أن يمارسوا نسبياً حريتهم في الجحيم كما يشاؤون، وأن يكونوا من ثمّ ما يصنعه منهم هذا الجحيم: ((أما أنا/ عن تفسخ الأزمنة/ وشدة الذبول/ عن هذه وتلك وغيرها سأحدثك)) (ص7 وما بعدها). ((تراودني صورة يوم، تلعثم التقويم بنهايته/ وها أنا شاخ صوتي/ على أطلال من رحلوا/ بينما حناجرهم لا تعرف بلاغة الرد))(ص8 وما بعدها). ((اجتاز مدناً بيضاء/ لكنه نشيجك الأسود/ يعكّر نصوع الأمكنة)) (ص9) ((بينما أنت تدور بدوامة بقائك/ نتصادم خلسة خشبية أن يعرف الأصدقاء)) (ص10). وغدت الهوية الشخصية ناعمة، مائعة، ومفتوحة دائماً على ممارسة الإرادة والخيال: وسواء أكان الأمر للأفضل أم للأسوأ، فإن الواقع يدعوك باتجاه إعادة تشكيله كيما تستطيع التأقلم مع معطياته ومستجداته المرعبة، يكفي أن تقرر أنت من تريد أن تكون: قاتلا أم مقتولا، ضحية أم جلادا، وستجد أن هويتك قد تماهت فيها وعلى قياسها، فكوابيس الواقع، وبخلاف التمثيلات الذهنية الأنموذجية، هي بطبيعتها متحركة، نحن نصوغها في تخييلاتنا، وهي بدورها تعيد تشكيلنا عبر المقاومة التي تبديها لمحاولات فرض إرادتنا عليها، وبهذا المعنى يبدو لنا نحن القرّاء أن العيش في هذا الواقع هو فن، ونحتاج إلى مفردات الفن، وفلسفته، وآليات عمله وسواها من الاشتغالات البراغماتية، لنتمكن من وصف تلك العلاقة الخاصة بين الإنسان وموضوعاته التي ما انفكّت تتجدّد في لعبة الحياة الخطرة. والحياة الخطرة كما نتخيلها، حياة الوهم الناعمة، والأسطورة، والمطمح، والكابوس، ربما تكون أكثر حقيقية من تلك الحياة الصلبة التي نضعها في خرائط وإحصائيات، في (مونوغرافات) –تقارير المسح الميداني- علم الاجتماع الحضري، وفي الخرائط السكانية والمعمارية: 
فالشاعر، وعلى الرغم من الانفتاح على الأماكن الذي يوحي به نصه، لا يدّعي أن كل الأمور تجري على وتيرة واحدة في الحياة الخطرة، لقد ضلّ كثير من الناس طريقهم في المتاهة تلك، وليس أسهل ببساطة من أن يضيّع واحدنا الآخر، بل أن نضيّع كذلك أنفسنا. وإذا كان وجود أدوار متعددة نؤديها يمنحنا شيئاً من الشعور بالحرية، غير أنه يتمخض كذلك عن شعور بالتوتر والقلق العميقين، فتحت ذلك كله يقبع باستمرار خوف من عنف لا يمكن تفسيره، وميل أبدي في الحياة الاجتماعية لأن تنحل في لحظة إلى فوضى لا حد لها، أما أحداث القتل الغامضة وفصول العنف السياسي المجاني التي يبرع الشاعر في عقدها، فهي مجرد مناورة كتابية محسوبة ينطلق منها إلى ما بعده، ربما يكون الواقع مسرحاً، وبهذا المعنى فهي فرصة للمجانين والأوغاد في الوقت نفسه أن يحولوا الحياة الاجتماعية إلى ملهاة تراجيدية، أو حتى إلى ميلودراما عنيفة، خصوصاً إذا أخفقنا في القراءة الصحيحة للقوانين الوضعية والسماوية، على الرغم من أننا ملزمون ضرورة بالاعتماد على المظاهر والسطوح، فليس واضحاً دائماً كيفية تعلّم الوصول إلى السطوح تلك، مع كل التعاطف والجدية المطلوبين، وتغدو المهمة هذه صعبة بصورة مزدوجة، بفعل الطرق المبتكرة التي يلجأ إليها مقاولو السياسة في انتاج الفانتازيا والخدع، بينما تقوم خلف تمخض القواعد والأساليب تلك "امبريالية عولمية" متحينة ومتأهبة، وبطرق متعددة، لإعادة خلق تراتبية قيم وأولويات جديدة تحل مكان الأنماط القديمة التي جرى تركها: الإشارات، والأساليب، وأنظمة التواصل الاصطلاحي العالي والسريع، هي شرايين الحياة في الواقع الممتحن، وما العنف إلا تلك الحالة التي تنشأ حين يجري كسر هذه الأنظمة، أي حين تعجز عن التقاط الحياة المدنية. والحياة المدنية نتاجنا الحديث الضخم، تبدو ناعمة ومفتوحة على أنواع لا تحصى من الحيوات والأحلام والتفسيرات الفردية المحيرة. إلا أن هذه الصفات المرنة هي التي جعلت الواقع الممتحن الجديد بالرغم من هويته المحررة عرضة للذهان والكابوس التوتاليتاري (الكلياني، الشمولي):
لقد جرى لفت الأنظار في معظم قصائد المجموعة الشعرية إلى تشخيصات صائبة تتضمن ملاحظات ثاقبة، وتمثّل التجليات الصائبة أخيلة جمل شعرية مأخوذة من مسارات مختلفة في الحياة الخطرة. وسيحتاج القارئ بعض الوقت ليكتشف أنها مشاهد مختلفة لرؤية واحدة تتنكر خلف أكثر من قناع، ولن تكتشف إلا من خلال التمعن الدقيق أنها مشاهد لرؤية واحدة، ولون واحد، ومع إصرار الشاعر على مرونة جملته الشعرية من خلال تطويع تحولات المظاهر والسطوح والواجهات النصية، تبدو الموازاة صارخة تماماً مثلما هي عودة الشعراء والمؤلفين إلى ذواتهم كمصادر أو موضوعات: 
إذا كانت الصورة الشعرية الثانية جاءت بسبب لون الكفن والضماد وبياض وجه الموت، فإن الصورة الأولى تخص العنوان الرئيس للمجموعة، فبإزاحة بسيطة يتحوّل النص إلى صندوق نصوص، والصندوق إلى رأس، فهذا الصندوق الذي يضم نصوصي هو رأسي المفخخ الذي يحتضر.