ياسين النصيِّر
كان ينظر في "أكرة" الباب المقفل، تأملته كثيرًا وهو يحدق في الأكرة الألمنيوم، قلت في نفسي ربما يفكر بطريقة ما للهروب من السجن، كان ذلك في سجن الأمن العامة ببغداد، آذار
عام 1978.
السجين الإسلامي الذي يحدق كل ربع ساعة في أكرة الباب قال لي بعد أن يأس من معرفة ما أصاب عينه: لقد ضربوني، وأخشى العمى، عندها تيقنت أن صاحبي الذي يقاسمني الغرفة لم يفكربالهرب، تأملت أكرة الألمنيوم، إذ بإمكانها أن تكون مرآة، "مشوفة" مغبشة يمكنها ان تكشف عما أصابه، خاصة في الأماكن التي لانرى فيها غير سجاننا. طمأنته أن جرحه
بسيط.
كانت الأكرة النافذة لغرفة مغلقة، يمكننا أن نرى فيها أنفسنا دون ان يرانا أحد، بعد ايام قمت أنا بالنظر فيها لأرى ما حدث لي. يمكنك أن تجد مرآة فيما حولك، فالآخر ليس بعيدا.
أعود لتلك الكسرة المتبقية من مرآة اشتراها أبي ضمن جهاز عرسه، وقد احتفظت بها أمي سنوات عديدة،عندما تمسكها تتحدث عن النجف وكربلاء والأئمة، وكأنها تراهم فيها، فسطحها العاكس ينقل عبر وجهها الجميل زوايا الرؤية المغبشة لأمنياتها، يوم تعرف عليها أبي في إحدى الزيارات، وها هي تتخيل بوجهها الأبيض الجميل وشعرها الطويل؛ العتبات المقدسة، وعندما عاد لقريته خطبها، هكذا تقول الحكاية، كان وجه أمي يملأ مساحة "المشوفة"المثلمة، فهي ليست "مشوفتها" وحدها بل وجه أبي وهو يبتسم. رأيتها وأنا في عمر الدراسة، تتأملها بعد غياب أبي فمرآتها المثلمة كانت فضاء شاسعا للرؤية، وتردد أغيناتها وهي تنظر في بقايا طلاء"مشوفتها"،وعندما تتشبع بالرؤية تعيدها إلى صندوقها الخشبي القديم.
الأم العجوز التي تتمرآى يوميًا بمشوفتها في ظلال البيت، تتمعن في تقاسيم زمنها المرسوم في بقع طلاء القصدير، فتحسب أن سنوات العمرهي الطريق، كانت مربوعة القامة، بيضاء، وجهها كان مرآة صقيلة، لم تكن بحاجة إلى مرآة، بل كانت الأشياء ترى من خلال عينيها العسليتين، أما الآن،(أيامها الأخيرة عام 2005) والعجز يلف جسدها، تنهض السنوات في مرآتها القديمة، "يمه ما بي حيل اشوف" فالمرآة المثلمة الحواف، الممزقة الطلاء، ما عادت ترسم وجه أبي، وكأن الفجوات التي تخترقها الرؤية كانت سنواتها وهي تعيد علينا حكاية كيف تعرف أبي
عليها.
وعندما تسلّمت صندوقها بعد وفاتها، كانت "مشوفتها" القديمة تركن في الزاوية، كانت تنظر إليَّ.فعجائز بيتنا القديم تحتفظ بـ "مشوفاتها" وبمشط شعرها المثلم، فالمرايا ممرات، وثمة اقتران بين سنوات العمر والممرات حين تكون أثرا.
لقد فتحت الدول متاحف لمرايا الأشياء المثلمة، ولبقايا الودع والخرز، ولصور مقابض الأبواب، أما نحن المتفرجين على الآثار فكنا مرآة بلا طلاء.
هذه الحيوات المختبئة في الذاكرة المرآوية، واحدة من أغنى الحيوات التي لا تدعي بغيرحقيقتها. هي منبع الشعرية كما يعدها النقد، حيث العيش في أعماقها هو غدنا، فالطبائع الأولى هناك، أما سطحها، ليس إلا بقايا حيوات مثلمة، ليس ثمة ثمار غير تلك الصور المختزنة في "مشوفة" أيامنا، هكذا كان الصمت يجري داخل حيوات الاشياء لنكتب أولى البداهات: كانت أكرة باب السجن مشوفة لسجين يبحث عن عينيه، وكانت مشوفة أمي المثلمة مرآة لي وأنا أنظر
في زمني.