سعدي المالح واستثمار الرمز الدينيّ (في انتظار فَرَج الله القهّار)

ثقافة 2020/11/24
...

د. عبّاس آل مسافر
هل الإيمان بقضية عودة (البطل الغائب) مقتصرة على دين من دون آخر أو مذهب معين؟ أم أن الأديان السماوية وغير السماوية تؤمن بأبطال غائبين، سيعودون يوماً ما من أجل إسعاد الناس وتخليصهم من الظلم. في رواية (في انتظار فرج الله القهار) الصادرة عام 2006 عن دار الفارابي، للروائي العراقيّ (سعدي المالح)، نجد الإجابة واضحة من خلال المقاربة، التي أجراها الروائي بين الأديان والغوص في طبيعة المجتمع العراقيّ المتنوعة، والتركيز على قضية الظلم المشترك الذي وقعَ على الشعب، بكل أطيافه ومذاهبه وأديانه وتوجهاته السياسية. 
لذلك نجد المالح يكرّس موضوعة الرواية من خلال واحدة، من أهم القضايا العقائدية المشتركة بين الأديان الإيمان بقضية (البطل المُخلِّص)، وكلّاً حسب إدراكه للقضية، وقوّة إيمانه بها، وتفعيل الفطرة الأولى التي وجد عليها الإنسان؛ ولأنّ قضية الانتظار قد تكون أحياناً مظهراً أساسياً ومميزاً للحالة الإنسانية الراهنة في القرن العشرين، إذ إنّ حياتنا اليومية مليئة بأنواع شتى ومختلفة من أشياء كثيرة ننتظرها؛ لذلكَ يبتكر هذا الروائي شخصيّة مختلفة عن الروائيين الباقين ويوظفها بطريقة مختلفة تماماً، فهذه الشخصية وإن كان منطلقها دينيّاً بالأساس، لكن هذا (البطل) عنده هو مزيج من شخصيّات عديدة، فهو ليس (المسيح) وليس (المهديّ المنتَظَر) وإنّما هو يأخذ ملامح كليهما، ويزيد عليه الروائي من خياله الخصب بالأساطير والحكايات الشعبيّة شيئاً جديداً ليُظهرها بصورة مختلفة عمّا هو مألوف، وليُثبت بأنَّ التعبير عن الإحساس بأهمية وجود (مُخلِّص) وانتظاره، ينطلق من إحساسنا بضرورة وجوده قريباً منّا، فصورته مألوفة عند أولئك المؤمنين به وليس المهم مَنْ يكون أو كيف يكون هذه البطل.
 نشعر بذلكَ ونحنُ نقلبُ الإشارات والرموز في الرواية، وهو يبغى من ذلكَ بأنَّ المجتمع العراقيّ موحدٌ من جوانب عديدة ، بغض النظر عن الانتماء الطائفيّ أو العرقيّ، لذلك نجده يقدّم بطله بصورة واحدة على لسان الأفراد المقموعين فكريّاً، وجسديّاً على الرغم من اختلاف عقائدهم الدينيّة، فهو (المُخلِّص) نفسه الذي تراه (العجوز) المسيحيّة أو (عبد الحسين) الشيعيّ فيظهر لهما بهيئة واحدة، وباسم واحد، هو (فرج الله القهّار) وبشكل يوحي بنمطية الصورة المتخيّلة في الذاكرة الشعبيّة، المستمدة من المسرودات والحكايات التي حدثت في أزمان وأمكنة غير محددة، مع اختلاف التسميات والطقوس اللازمة للقائه، وأحيانًا تحضر صورة هذا البطل عن طريق رؤية الشخصيّات التي يلتقي بها أو يظهر لها فجأةً، فكلُّ شخصيّة في هذه الرواية تقوم بمهمة تقديم صورة (البطل المُخلِّص) من وجهة نظرها هي، وبلسان السارد الذي يُمهّد للحكاية إلى أن يتم اللقاء به، فهو متوقع الظهور في حلول المحن ووقت الشدائد، فشخصيّة (العجوز) التي ترى (فرج الله القهّار) ثانيةً، بعد مرور فترة زمنية على رؤيتها له، عندما كانت طفلة وقد تاهت من أمها في البراري، تندهش وهي تراه ماثلاً أمامها مُقدِّماً يد العون لها، فيقول (السارد المشارك) ناقلاً الدهشة نفسها التي شعرت بها هذه المرأة حين التقت ببطلها سابقاً: « بالرغم من مرور ثمانين عاماً، فالشمعة نفسها أتت وحطّت أمامها، منيرة المكان برمّته، تراجعت العجوزُ قليلا إلى الوراء خائفة مرعوبة، فتبدّى لها وجه أسمر نوراني من لهب الشمعة، وسمعته يهدّى من روعها :لا تخافي ، أنا أسهر عليك  وأحميك، تراءى لها الشخص من بعيد يشبه السيّد المسيح، أو قدّيساً لا تعرف أين لمحت صورته.  أحست برهبة ورجفة، وتسارعت دقّات قلبها» الرواية :15 ـ 16.
 ويبدو أنَّ صورة العجوز هي الصورة نفسها التي نفسها التي يراها (عبدالحسين) ولو بهيئة مختلفة، فبعد قراءة (طقوس الزيارة والدعاء) والرجاء من الله أن يتم اللقاء بينهما (عبد الحسين والمهدي) في الحياة وبعد الممات وفي يوم القيامة، وهذه الفعاليّات الدينيّة معروفة لدى أبناء المذهب الشيعيّ ومألوفة سواء بممارساتها اليوميّة أو تلك المرتبطة بشعائر أو مناسبات دينيّة معيّنة ؛ إذ تمثل فكرة (انتظار المهديّ) واحدة من أهم العقائد لديهم، فيقول (الراوي المشارك) الذي ترك لـشخصيّة (عبد الحسين) حرية التعبير عن (بطله المنتظر).بعد أن وصف حالته وهو يمارس طقساً عقائديّاً، مفسحاً المجال أمامه للتعبير عن خلجات نفسه بهذا اللقاء النادر جداً، والذي لا يتم إلّا لخواص الخواص أو من كُشفت لهم الحُجب ورؤية أولياء الله الغائبين، فيصف الراوي بدقة العارف بخفايا الأشياء والمطّلع عليها هذا اللقاء، الذي يكشف لنا جزءاً مهماً من شخصيّة هذا البطل الموعود: «كان عبدالحسين يقرأ الدعاء وعندما وصل إلى اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة بحضوره وعجّل لنا ظهوره، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً برحمتك يا أرحم الراحمين، ضرب بيده على فخذه الأيمن ثلاث مرات وهو يقول: العجلة العجلة يامولاي ياصاحب الزمان» تراقص ضوء إحدى الشموع، ثم تقدّم نحوي ووقف أمامي فتبدّى منه وجه نوراني، شعرت برجفة تنتابني... سألته من أنت ؟ قال : أنا فرج الله القهار، ثم ذاب في لهب الشمعة المتراقص» الرواية :67.
وعلى الرغم من أن فكرة الإيمان المطلق بعودة البطل المنتظر إلّا أن هناك من لا يؤمن مطلقًا به، وهو الشاب «ابراهامط ابن العجوز الذي يرى بأن الإيمان بهذا البطل الموعود الذي طال الزمن به عديم الفائدة، وهذا ينعكس على الصورة التي يقدّمها هذا الشاب عن هذا البطل الذي لا يعده سوى (خرافة) نسجها عقل ناس البسطاء والساذجين؛ لذلك فالرواية هي مشهد خارج إطار الدهشة  النورانية التي وضعتها فيها بعض الشخصيات الرئيسة في الرواية، فالنظر إلى فرج الله على أنه إنسان عادي لا يتمتع بهذه الهالة وهذا الغموض والسحر أيضًا حاضران لاسيما عند ابن العجوز، حينما يعلن خطابه بشأن اللقاء به عن صورة طبيعية إنسانية جدا لا تختلف عن صور إنسانية أخرى، الذي لم يتحمس مطلقًا للقائه، بالرغم من وصية أمه له قبل وفاتها بأن يبلغه سلامها وأنها كانت بانتظاره طيلة حياتها، وهي تشكره على جميع المواقف التي ساندها بها وأهمها انقاذ زوجها حين تعرض لحادث دهس متعمد في شبابه، وهو اللقاء الثاني والأخير به.كما يبدو بأن المالح استفاد كثيرًا من بنية عنوان مسرحية (في انتظار غودو) لصومئيل بيكيت ووظفه مع تغيير اللفظ الأخير، ليكون ملائمًا لفكرته الدينية المستوحاة من جميع
 الأديان.