المستوى الفلسفي ولعبة السؤال في (بابْيون)

ثقافة 2020/11/24
...

  علي لفتة سعيد

يميل الشاعر حبيب السامر في مجموعته الشعرية الجديدة (بابيون) الى  استغلال أمثل للإزاحة الفلسفية التي تمنحها الأسئلة، سواء تلك المبثوثة في النصوص أو التي يمكن أن يضعها المتلقي أثناء القراءة، التي تبدأ هذه الازاحة منذ البدء حين يضع بين يديه المجموعة ويقرأ العنوان (بابيون) بتسكين الباء والتي تجعل المتلقي يبدأ،بالسؤال عن المعنى والمغزى والتأويل والعلاقة بين العنوان والنصوص الشعرية المقبلة، لكنه يعبر المفهوم المرتبط بالجمال والفراشة والنافذة والحب بمعناه الفرنسي.

فهو عنوان بالنتيجة يمنح قدرة السؤال على الانبثاق من جديد، فإنه يتم من خلال معرفة النصوص وخاصيتها سواء منها التدوينية او الفكرية التي تختزنها الدلالة الكامنة في روح المفردة، التي تتحول من كونها دالة الى مدلول شعري وهنا بالنتيجة يكون العنوان محطة تأويلية أو تفسيرية أيضا انها حصل جمع النصوص الكلية للمجموعة التي يصل عددها الى 37 نصا شعريا.
إن المجموعة في جل افكارها تحاول الوصول الى السؤال الفلسفي، كيف نعيش؟ او لمن نعيش؟ او لماذا نعيش؟ ومن خلال تنوع علامات السؤال ينتج لنا النص الشعري، التي يزيح السؤال من منطقة الاستفزازية الى إنطلاقته التأويلية التي تحضر فيها الشاعرية هنا بطريقتين، الأولى/ المفردة التي تسوق الجملة الشعرية، الثانية: المفعول التأويلي للمفردة داخل بنائها الشعري كنص، وهو الأمر الذي لا يعطي عملية التلقي مغادرة مؤقتة من أجل البحث عن مفهوم النص كدلالة حكائية بقدر ما يعطيها مفهوما من عمق البعد الفلسفي للنصوص، ولأن الأهم في عملية التوريط السؤالي الذي يتركه الشاعر مرة واضحا مثل ضوء معلق في عمق النص أو على شكل تلويحة تأتي من خارج النص او على شكل مفردة تقطع فيها انسيابية الجمل الشعرية للوصول الى منتهى العبارة وتأويلها.
إن بينية الكتابة في المجموعة اعتمد على تركيز الشاعر على مفردات مفهومة، لكنها تحمل المستوى الفلسفي، مثلما تحمل المستوى القصدي وبالتالي اتجاه المتلقي الى تقشير المفاهيم التي تمنحها المفردات في المتن الشعري هي اللحظة التي تفكك هذه المفردات وتعيدها الى نصبها الفلسفي وهي قادمة من منع شعري،فالنافذة والحلم كلاهما تأمل والمدينة هي اتساع الحياة والحب الغاية المجهولة أو التي يراد لها الوصول أو القيثارة، التي يمكن أن يعزف عليها المتأمل على النافذة ليطلق العنان للحلم ومن ثم اسماع لمدينة التي يبحث عنها ليس بمعناها اليوتيبي أو المدينة الفاضلة، بل المدينة التي تمحنه الهدوء، ولهذا احتاج السامر الى تكتيم النص بطريقته، التي لا نقول إنها مختلفة عن الآخرين في التدوين النثري للقصيدة بقدر كما انه يترك المساحة الكلية للسؤال، ليكون معوضا عن عملية البحث عن ماهية علاماته بين كيف ولماذا ولمن لأنه لا يريد إرهاق المتلقي في ترتيب اوليات البحث عن الناهية الشعرية، بقدر ما يريد الوصول الى الدلالة الحتمية للسؤال وهو ما احتاج اليه في البنية الكتابية، لان تكون لبداية مباشرة تعتمد على  المستوى الفلسفي من خلال السؤال (هل فكّرتَ/  أن تُمسِك غيمةً،/تطاردُها، / وأنت تعدُّ خطاك؟ ) من نص (نافذة مغلقة على حلم ) او انه يبدا بمستوى إخباري ليربط عنوان النص بالمستوى الفلسفي وهو امر يحتاج الى مهارة في تكنيك الجملة الشعرية (مرّة تلمست أصابعي/وبدأت أعدُّها/ فرصة مواتية كي أحصي عدد أصدقائي ) من نص ( الاصدقاء ) وهو الامر الذي يجعل مكادة السؤال مبطنة، في الكثير من الاحيان وكانه يترك للمتلقي ان يطرحه ليكون معينا للحصول على اجابة التأويل (بعد برهة/سنحدق بالمدينة التي شارفت على النهوض،/مثل انحسارات الضوء،/بقيلولة الصمت/تسألُ لوناً للأرصفة،) من نص(ليل لا يجيد تداول الحلم ) وهو يلجأ الى وضع السؤال كمستوى قصدي في العنوان الرئيس ومن ثم يبدأ المستوى التحليلي في مناقضة الماهية التي يريد للمتلقي الوصول إليها، كما في نص (كل هذا لكِ، هل يكفي؟!)
إن بنية الكتابة في المجموعة لا تتعكز على طول القصيدة او قصرها، لكي لا تكون مراوحة بين النمص والومضة، بل هو يترك الفكرة تنساب في معتركها من اجل المواءمة بين النص كفكرة والنص كتأويل وهو ما جعل  كل نص يأخذ خاصيته كبناء تدويني وهو لا يعني اختلاف الغاية القصدية، بل بما يعني ان النص لديه قامة كاملة كما يولد في اللحظة الاستفسارية، فالنصوص ما بين حلم ويأس وحب وضوء ونافذة وإغلاق وتمرد ووطن وروح ومطر ويباس، فان العلامة الفارقة التي تطرز النصوص هي علامة البحث عن اجابة السؤال ولعبته سواء كان ذلك بهدف فلسفي أو تأويلي، وسواء كان ذلك ظاهرا ام مبطنا، وسواء كان ذلك غاية أو وسيلة، ولهذا فإن الامل هو الصورة الكبرى التي يمكن ان يجدها المتلقي في نهاية المطاف والوصول الى المصب والجلوس هناك، حيث ينهمر من خلال أدعية الحلم وان كانت النوافذ مغلقة(عطر/حين أغمسُ روحي قليلاً في الزيت/على نار هادئة جداً/ أجدُني/ أبخرة من كلمات وياسمين/تعطّر المكان،) من نص ( عطر ).