د.أحمد الزبيدي
لعل من أكثر ما يعاني منه التنويريون العرب والحداثيون، هو الأنساق الثابتة في الفكر العربي وهيمنتها على الثقافة العربية وعدم انتعاش الفكر الحداثي بسبب جثوم البنيات الفكرية الموروثة على مفاصل الحياة: الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومنها (الشعر الحديث)! فعلى الرغم من أن التحول الشعري الثوري الخطير الذي طرأ على القصيدة العربية هو الشعر الحر ولكن المعيار التحولي يقاس بالثابت الموروث، وتحديدا (الوزن) الذي هو وسيلة من وسائل البناء الشعري، وليس كلها، ومع ذلك فإن المصطلح المستقر في الدلالة على الشعر الحديث هو (قصيدة التفعيلة) أي أن المصطلح يعكس دلالة إيقاعية، لا غير، وحتى الاجتراحات الاصطلاحية البديلة، هي الأخرى ذات دلالة إيقاعية كالمصطلح الذي اقترحه محمد النويهي (العمود الجديد)، هذا يعني أن المعيار الإيقاعي(الوزن) بقي يلاحق الشعر، بوصفه الوسيلة المادية الملموسة والدالة على اجناسية البناء الشعري ولم تكن (اللغة) او (الصورة) بوصفهما عنصرين أساسيين في بناء الشعر، شريكتين في الدلالة الاصطلاحية على النوع الشعري الجديد.
وما مصطلح (قصيدة النثر)، إلا دلالة تمردية على العنصر المادي الملموس، فكأن النثر هو التضاد الأكثر لمصطلح (الوزن)، أي أن مصطلح قصيدة النثر يذكّر المتلقي على الفور بالبنية الإيقاعية الوزنية وتفعيلاتها المنتظمة، وحين هبّ مجموعة من الشعراء الشباب، في التسعينات، لاجتراح هوية جمالية خاصة بهم اقترحوا تسمية كتاباتهم الشعرية بـ (قصيدة الشعر) كرد فعل على قصيدة النثر وكانتصار للمصطلح الأبوي الكبير(القصيدة العمودية)، إذن بقي الوزن وعرابه الخليل هو المرجع الثابت في الدلالة على الولادات الشعرية الشرعية واللقيطة! فما ينتسب إلى شجرة الخليل يمتلك إجازة رسمية من قبل المؤسسة النقدية، أن يكون شعرا معروف النسب وما تخلى عنها فهو متهم وإن كان بريئا، ومن هذا المنطلق فإن مصطلح (الشعر الحديث) ضاعت حدوده الرسمية بسبب قداسة الوزن وقداسة سلطته النقدية، فمن النقاد ما يؤرخ بداية الشعر الحديث بحركة النهضة التي انطلقت مع الطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي، وتحديدا حركة الإحياء التي هي في جوهرها عودة للقصيدة العربية القديمة وإحياء للتراث ومنهم من يؤطرها انطلاقا من جماعة الديوان وأبولو والقصيدة الرومانسية، ولكن الأغلب ينطلق من ( قصيدة التفعيلة) وجميع هذه الأشكال والألوان لا تتحرك إلى الامام إلا وعينها تلتفت إلى أوزان الخليل .