المثقفون والحب

ثقافة 2020/11/25
...

 أ.د. باسم الاعسم

 
ثمة غرابة في عنوان المقالة ربما ستثير أسئلة استفهامية من لدن بعض القراء عن طبيعة وخصوصية العلاقة بين المثقف والحب، مع يقيني أنهما دعامتان رئيستان للانسان والمجتمع، إذ لا حياة من دونهما، فهما توأمان لا ينفصلان يكمل أحدهما الآخر، وباتحادهما ترتقي الذات الانسانية، وتتسامى العلاقات الاجتماعية، فيعم السلام ويسود الحب والتسامح، وتلك غايات إنسانية سامية.
إن الذي دعاني الى كتابة المقالة شيوع بعض المظاهر السلوكية الشاذة وغير المحمودة وسط بعض المحافل العلمية الثقافية والاعلامية، كالعداوة والبغضاء والحسد والرياء، وأحياناً تذاع أو تذكر عبر وسائل الاتصال السمعية والبصرية، وكان الأجدى أن تردم عبر الحوار المثمر، والمكاشفة الهادئة، وإلا فما فضل الثقافة والشهادة والألقاب العلمية والأدبية؟!
أنا شخصياً أوجز تعريف المثقف بكلمتين فأقول: إن المثقف هو (سلوك متحضر)،إذ لا جدوى من إطلاق صفة مثقف على كل من هب ودب، أو على من أمتلك معلومات هائلة، أو حاز على صفة أدبية حسب، إذ ليس للثقافة قيمة إذا لم تهذب وتشذب السلوك الإنساني، وتقوّم المسارات الخاطئة، فتجتث بؤر الضغائن القابعة في غياهب النفوس اللئيمة الحاقدة. على وفق هذا المنظور لا يليق بالمثقف أن يكون لئيماً عنيفاً، أو عدوانياً وإرهابياً، فهو من رسل السلام، يدين التطرف في السلوك والفكر، ويعول عليه في مجابهة أشكال الخراب والقبح والانحرافات المجتمعية، بوصفه نموذجاً راقياً يحتذى به. 
ولذلك تخوف (غوبلز) وزير هتلر من الثقافة والمثقفين عندما قال: (كلما تناهى الى سمعي كلمة ثقافة تحسست مسدسي)، لأن المثقف منتج الثقافة، ويشيع الفكر الحر ويوجه الرأي العام ويصنع الجمال.
أما الحب فاختصره بكلمتين أيضاً فأقول: إن الحب هو (عاطفة جليلة)، تتجلى عظمتها عندما تقترن بالأبعاد الانسانية (الاجتماعية والاخلاقية والتربوية) وتتعاظم أهميتها عندما يتمثلها الانسان المثقف بنحو تطبيقي.
وليس أعظم من أن يطفح قلب الفرد والمثقف خاصة بالحب، ولا أعني حب نفسه أو منجزه بنحو أناني، بل أن يحب نفسه كما يحب غيره، لكي تتأسس أسمى العلاقات الانسانية والثقافية في منأى عن أيَّما غايات مادية زائلة أو مطامح شخصية آفلة، فالناس تنظر للمثقف بعيون واسعة وقناعات راسخة بعده نموذجاً ناضجاً للإصلاح والتغيير والبناء والتنوير.
إن الحلقة المفقودة في بعض مناحي الأوساط الثقافية، الأدبية والفنية والإعلامية، عدم توفر ثقافة الحب الحقيقي القائمة على أساس احترام الآخر، فالحب فيض انساني وعاطفي مقدس تؤطره المشاعر الجليلة، التي لو تنامت في النفوس لأنجلت عنها الغمّة والتكلسات القبلية والنعرات الطائفية والدوافعالانانية وعليه فإن من أخص فضائل الثقافة تربية النفوس وتقويمها، إذا ما أدركنا أن جميع الكئنات يؤسرها الحب، فلا تحيا من دونه أبداً .
لذلك ينبغي ترويض نفوسنا وجعلها روضة فارهة من رياض الحب والتسامح، بحيث نكون فاعلين ومتفاعلين مع بعضنا، محبين لغيرنا كمثقفين، بما يتوافق وطروحات المفكر (غرامشي) الذي أراد أن يكون المثقف عضواً فاعلاً في المجتمع، مؤثراً ومتأثراً في الآن نفسه .
ولكي تؤدي الثقافة فعلها المؤثر في سلوكنا، فلا مناص من أن نكون واضحين وليس مشفرين أو مقنعين بوجوه عدة، إذ كثيراً ما تبدو بعض العلاقات الاجتماعية ضمن مؤسسة ما جيدة وراقية في الظاهر، لكن طالماً أظهر الواقع المستور سلوكيات ملغمة ومراوغة، طالما نهت عنها الأديان كلها، كالغيبة والنميمة وسيئات الافعال والاقوال، التي لا تنم عن نفوس كريمة وطيبة متأملة. أفلم يكن المثقف أو المتعلم كالفنان والأديب مثلاً للتنوير الفكري والاجتماعي والمعرفي بحكم شساعة وعيه وكثافة ثقافته؟ فلقد كان والدي رحمه الله يقول: (إن المثقف سهمك الراحة منه). وبالفعل يكون المثقف نبي عصره عندما يتسامى على الصغائر والضغائن عبر الحب، الذيبشرت به الرسل والانبياء، والرسالات السماوية، ومن دون الحب يكون الانسان فظاً غلظ القلب.
ولذلك شكا د. حسين علي هارف في رسالته إلى الاوساط الثقافية من غلاظ القلوب وناكري الجميل و د. عقيل مهدي، الذي أشار الى أدعياء الثقافة الغارقين بعقدهم وكراهيتهم أولئك القوم الشرار.
وأكاد أجزم أن الموهومين والمدعين والحاقدين والطارئين، هم أساس البلوى، يثيرون الفتن ويفتعلون الازمات وينكرون الجميل، يسعدهم تعقب الأخرين واصطياد هفواتهم، أما الاسوياء ذوو النفوس الكبيرة والمنجزات الكثيرة، فهم في شغل عما يفعل الآخرون.
كثيراً ما يحدث أن يبذل مدير دائرة أو مؤسسة أو نقابة مهنية قصارى جهده لتطويرها وبجهود قل نظيرها، ويرهق أعصابه لسعادة أصاحبه، فتترصده العيون والوجوه الضاحكة بوجهه نهارا والعابسة ليلاً، وجوه مقطبة لا تعرف الحب أو ترسم الابتسامة، أحدهم إذا صافحك غدرك، وإذا ذكرك ذمك، وإذا دعاك الى مأدبة سمك، لم ولن يقوى على العيش بصدق ووئام، لأنه يتقمص دور المحب لا يقوى على ابتكار الحب، يدعي النقاء، وهو لئيم، يمثل الأدوار حسب مقتضى الحال، والذين يمثلون قد ينجحون على المسرح، لكنهم يرسبون في الواقع الحياتي، إذ سرعان ما تتضح مآربهم، وفي الجانب الاخر ثمة مثقفون واعون مهذبون وعلى خلق عظيم تحسبهم أنبياء من فرطتواضعهم، والكارثة أن يكون أحدهم في دائرة الضوء، فسرعان ما تدور حول رقبته الدوائر، وتوجه صوب صدره سهام الحقد والغيرة والحسد، ويسعى الجميع لإفشاله وافتعال مواقف الزور إزاءه، وعلى حد قول: العالم المصري (أحمد زويل) إن الغرب ليسوا أذكياء ونحن أغبياء، ولكن الغرب يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.
وعلى ضوء المنطق الانساني فإنالمثقفين أخوة، وثمة مشتركات تجمعهم، وعند الشدائد تعرف الإخوان. وعندما يكون الحب قاسمهم المشترك يزلزلون الأرض من تحت أقدام الطغاة، ويرسمون من فيض أحلامهم الوردية جمهوريات السلام والعدل والجمال، فهم صناع الفرح الإنساني بما تجود به قرائحهم الابداعية من منجزات الفكر والادب والفن، التي هي الحب وقد سطر بهيئة كلمات ولوحات وسيمفونيات ومسرحيات.
وعلى شح المثقفين عبر التاريخ إلا أنهم يشكلون الرموز الوطنية والابداعية التي تسهم في توجيه الرأي العام ويعول عليهم في إحداث التغيير، إذا ما توحدت كلمتهم وتسامى خطابهم، وعظم حبهم لبعضهم، فهم يبدعون للناس والوطن ولا أحد ينكر صدق ولائهم لكل ما هو جميل وجليل، أما الشواذ القابعون في سراديب ذواتهم المتورمة، فلا ذكر لهم ولا هم يحمدون، وكما يقال: إن قلب المحب يسع الدنيا، أما القلب الحقود فيقتل صاحبه ويعود على الاخرين بسوء أفعاله.