بي بي سي
بذل الناس على مر العصور محاولات مضنية لتجنب الإصابة بالأمراض، وذهبوا في ذلك إلى أبعد مدى. فقد اشتهر في العصور الوسطى على سبيل المثال، محلول خل التفاح المخلوط بالأعشاب، الذي كان الناس يضعونة على أيديهم ووجوههم قبل مغادرة المنزل لدرء مخاطر الطاعون. ويقال إنَّ مجموعة من لصوص القبور ابتكروا هذه التركيبة حتى لا يصابوا بالمرض. وفي القرن السادس عشر، ابتكر الطبيب كوينتو تيبريو أنغيليريو في جزيرة سردينيا الإيطالية، فكرة بارعة للحفاظ على التباعد الاجتماعي، مفادها أنْ «يحمل كل شخص قبل الخروج من المنزل عصا طولها ستة أشبار، على أن يبتعد المرء عن الآخرين مسافة تعادل طول هذه العصا».
وألف أنغيليريو كتيبا كان سابقا لعصره إلى حد مخيف، عن التدابير الصحية التي يجب أنْ يتبعها الناس أثناء تفشي الأوبئة في مدينة ألغيرو بجزيرة سردينيا، وأوصى فيه بأنْ يخرج شخص واحد فقط من كل أسرة لشراء احتياجات المنزل، وحث القراء على توخي الحذر عند مصافحة الآخرين. وفي العام 1793، أخلت الحكومة الأميركية أحياءً كاملة من فيلاديلفيا، العاصمة آنذاك، لحماية السكان من تفشي الحمى الصفراء، ونزح من المدينة نحو 20,000 شخص على مدى شهر، أي نصف السكان آنذاك. ولعل هذا يدل على أن الناس كانوا يدركون، قبل قرون من اكتشاف الكائنات المجهرية والأجسام المضادة أو اللقاحات، ضرورة تجنب الإصابة بالعدوى بأي ثمن. لكن في العام 2020، لاقى هذا الاعتقاد بعض الانتقادات. فقد اقترح بعض الناس، منذ بداية وباء (كوفيد – 19)، ستراتيجية خطيرة ومشكوكاً في صحتها، لتعريض الناس للعدوى الفيروسية عمداً، لتسريع وتيرة عودة الحياة إلى طبيعتها. وانتشرت مصطلحات جديدة للتعبير عن هذه الستراتيجية الجديدة، مثل «جواز السفر المناعي» و»مناعة القطيع». ووصف أصحاب هذا الرأي انخفاض عدد الأجسام المضادة في أجسام الناس- الذي يدل على انخفاض عدد المصابين- بأنه إخفاق وليس نجاحاً.
ووقّع عدد من العلماء على بيان مثير للجدل، أطلق عليه «إعلان بارينغتون العظيم»، انتقدوا فيه مواصلة فرض تدابير الإغلاق الشامل وطالبوا بفرض ما أطلقوا عليه «حماية مركزة». ويرى عالما الأوبئة والخبير الاقتصادي الصحي الذين حرروا هذا الإعلان، أن الطريقة الأفضل لمكافحة الوباء هي: «السماح للأشخاص الأٌقل عرضة للموت جراء الإصابة بالمرض بأنْ يعيشوا حياتهم كالمعتاد ويكتسبوا مناعة من الفيروس بعد الإصابة الطبيعية بالعدوى، وتوفير الحماية الكافية للأشخاص الأكثر عرضة للموت من المرض». وقد جُمعت آلاف التوقيعات على هذا البيان منذ أن كشف عنه
النقاب رسميا، لكن بعض العلماء في المقابل فنّدوا الكثير من بنود هذا الإعلان.
وطبقت وكالة الصحة العامة في السويد نهجا مماثلا في تعاملها مع (كوفيد – 19)، وصف بأنه الأكثر تساهلاً في أوروبا. فبالرغم من أنَّ السويد فرضت الحجر الصحي حاليا للمرة الأولى، فإنَّ حياة سكانها لم تتأثر قط معظم العام الماضي، لدرجة أن أنديرز تيغنيل، كبير علماء الأوبئة بالوكالة، كان ينتقد الكمامات ويشجع الناس على عدم ارتدائها في الأماكن العامة. وظلت الحانات وصالات الألعاب الرياضية والمتاجر والمطاعم في الدولة تعج بالرواد في وقت كانت فيه معظم الشعوب الأوروبية حبيسة المنازل.
وفي تموز، زعمت وكالة الصحة العامة في الدولة أن نسبة المناعة في العاصمة ستوكهولم وصلت إلى 40 في المئة وأنها في طريقها لدحر الفيروس.
وبما أن العلماء يقفون الآن على مفترق طرق، فمنهم من يرى ضرورة الإغلاق ومنهم من يرى أهمية مناعة القطيع،
هناك بعض الأسباب التي يسوقها الخبراء المؤيدون بشدة لتدابير الإغلاق الشامل، ولماذا ينبغي عليك أن تتجنب الإصابة بأي نوع من الأمراض عمدا. ويقول أحمد رافي، مدير مركز «إيموري» للقاحات في جورجيا: «عندما حلّلنا استجابة الأجسام المضادة لدى بعض المصابين، وجدنا أن الكثير من الأجسام المضادة التي أطلقتها
أجهزتهم المناعية كانت قادرة على محاربة سلالات مختلفة من الإنفلونزا وليس سلالة إنفلونزا الخنازير التي طورت خصيصا لمحاربتها فحسب».
وتقول بيات كامبمان، أستاذة العدوى والمناعة بكلية لندن للصحة العامة والطب المداري: «إن بعض الناس لا يكتسبون مناعة طويلة الأمد بعد الإصابة بالعدوى. وقد أثيرت تساؤلات عديدة حول المناعة التي يكتسبها المصابون بكوفيد - 19، لأن الناس لا يكتسبون مناعة طويلة الأمد بعد الإصابة بفيروسات كورونا التاجية بشكل عام». ولا يزال الوقت مبكرا لمقارنة المناعة التي يكتسبها الناس بعد الإصابة بكوفيد-19 بتلك التي توفرها اللقاحات المرتقبة. لكن النتائج الأولية للتجارب تشير إلى أن بعض اللقاحات أدت إلى توليد استجابة مناعية أقوى مقارنة بالإصابة بالعدوى، إذ كانت مستويات الأجسام المضادة في الدم بعد الحصول على هذه اللقاحات أعلى من مستوياتها في دم المرضى المتعافين من المرض.
وثمة ميزة أهم للقاحات، وهي أنها تكفل الحماية لأعداد كبيرة من الناس من المرض في وقت واحد.
وفي أيلول، أشارت تقديرات العلماء إلى أن نحو 38.5 في المئة من سكان بيرغامو الايطالية لديهم أجسام مضادة لفيروس (كوفيد – 19)، وهذا يدل على أن نحو 420 ألف شخص في المقاطعة أصيبوا بالمرض. ولا توجد مدينة تضاهي بيرغامو في هذه النسبة المرتفعة من الإصابات سوى مدينة ماناوس البرازيلية، التي يقدر عدد الأشخاص الذين لديهم أجسام مضادة فيها بنحو 66 في المئة من السكان، بالإضافة إلى بضعة مدن أخرى. لكن حالات الإصابة بـ(كوفيد – 19) تراجعت كثيرا في المدينتين، ربما بسبب مناعة القطيع. لكن هذا النوع من المناعة قد يتحقق عادة باللقاحات لأسباب عديدة.
أولا تُعرف مناعة القطيع بأنها المقاومة التي يكتسبها الناس وسط مجموعة سكانية ضد مرض معين عن طريق تعرض جهاز المناعة للفيروس. ولا تقضي مناعة القطيع على الفيروسات تماما، لكنها تحد من انتشارها في حال كانت معدية.
فإذا كان بعض الناس عرضة للإصابة بمرض معين، ستحد مناعة القطيع من فرص تعرضهم للفيروس.
ولهذه الأسباب، قد يكون من الأفضل الحد من أعداد الإصابات في المقام الأول. وقياسا بالمحاولات المضنية والأساليب المثيرة للغثيان التي استخدمها البشر على مر التاريخ للوقاية من الأمراض، فإن البقاء في المنزل والمحافظة على مسافة كافية بينك وبين الآخرين وارتداء الكمامة والمواظبة على غسل اليدين، ليس صعبا على الإطلاق، وأفضل بلا شك من خلع الأسنان أو أقراص قيء الضفادع!