نهى الصراف
يتم التعرف إلى التنمر من خلال انطلاق صافرة إنذار داخلي، يخبرنا بأن هنالك شخصاً ما – أياً كانت صفته- اقترب كثيراً من الحد الفاصل بيننا، تلك المساحة النفسيَّة التي تعد من ضمن أملاكنا الشخصيَّة، اقترب أكثر من اللازم بطريقة تجعله لا يرى الآخر بوصفه كياناً مستقلا وبالتالي لا يمكن أن يأخذ في اعتباره خصوصيته وتأثير فعل التنمر في مشاعره وانفعالاته.
أصبح التنمر بأشكاله المتعددة السمة الواضحة للمجتمعات البشريَّة الحديثة، بل إنَّ التباين في المستوى الثقافي والاقتصادي للمجتمعات المختلفة لم يعف فئات معينة من الناس من التعرض للتنمر المستمر وإنْ كان بشكله المباشر أو غير المباشر بطرق يبدو بعضها غير صريح ولا يمكن تمييزه بسهولة إلا من قبل الشخص الذي يتعرض للتنمر؛ الفقراء وأصحاب البشرة السمراء، الأطفال ضعاف البنية والسيدات اللاتي لا يتمتعن بحماية مجتمعيَّة، الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن أو بمواصفات جسديَّة معينة غير جاذبة منهم المعاقون والكثير غيرهم، كل هؤلاء عرضة للتنمر بشكل أو بآخر.
أما القاسم المشترك الذي يعزز من قيمة وثقل هذا السلوك الشائن، هو أنَّ من يقوم بفعل التنمر يمتلك بالضرورة سلطة اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة أو جسديَّة تتفوق بشكلٍ ما على الشخص الذي يتعرض للتنمر، ولهذه السبب نجد أنَّ الآباء والمعلمين والمربين لا يمكن بالضرورة استثناؤهم من قائمة الاتهام، بوصفهم قد يمارسون نوعاً من التنمر على الأبناء والأطفال الصغار بحكم تأثيرات السلطة الأبويَّة التي تمنح مساحة حرية كافية للكبار للتحكم فيمن هم أقل سناً وخبرة، بداعي النصيحة أو فرض الحماية.
اليوم يبرز أيضاً نوعٌ من التنمر الذي يأخذ مساراً غير مطروق، تنمر الأبناء على آبائهم وهذا قد يبدو للوهلة الأولى غير منطقي وليس مفهوما، لكنه أمرٌ واقعٌ على الرغم من أنه سلوكٌ أخف وطأة على الروح، إذ إنَّ معظم الأبناء الذين وصلوا إلى سن الرشد يعبرون عنه كفعل حب للآباء والأمهات من كبار السن، حب مشروط بالطاعة!. تقول د. جين آدمز كاتبة أميركية وأستاذ علم النفس المساعد في جامعة واشنطن: «يشكوني العديد من مرضاي من تسلط أبنائهم ومحاولة التحكم في يومياتهم بحجة الحرص عليهم، ابتداءً من ضرورة تناول الفيتامينات والأطعمة الصحيَّة، وليس انتهاءً بقيادة سياراتهم الشخصيَّة، بينما يتبنى بعض الأبناء كلمات الأب والأم ذاتها التي طالما استخدماها في توجيه الأبناء عندما كانوا في سن الطفولة ويحتاجون إلى الرعاية، فاليوم صارت الأم تسمع الكلمات ذاتها من ابنتها الكبرى من مثل.. «أنا أقول هذا لمصلحتك.. لأني أحبك ولا أرغب بأنْ يصيبك سوء»!. في الواقع، يفتقد المتنمرون النمطيون إلى التعاطف الضروري للتفكر في مشاعر الآخرين أو الاهتمام بها وردود أفعالهم العاطفية، وهذا يتناقض تماماً مع سلوك الأبناء المتنمرين تجاه آبائهم. هذا أمرٌ مضحكٌ حقاً بل ومثيرٌ للأعصاب، تؤكد إحدى الأمهات. ومثلما هو رد فعل الأبناء في سنوات الطفولة، يلجأ الآباء لاستخدام الحيل ذاتها في صورة مفردات قاسية في محاولة لردع محاولات الأبناء للتسلط على حياتهم، فمن السهل أنْ يتم استخدام كلمة تنمر كرد فعل مباشر.. وهو مرادف لقسوة من يمتلك الصلاحيات والقوة في مقابل كائن ضعيف عيدم الحيلة.
تؤكد د. جين آدمز أنَّ الخوف على صحة أبوين قد يعمدان مثلاً لتبني أساليب وعادات يومية مضرة لهما ربما يكون حلاً مناسباً للطرفين، المحافظة على الصحة أمر مفيد لكلا الطرفين وهذا يبين حرص الأبناء على وجود الأهل في حياتهم حتى وإنْ كانوا مجرد خيال محبوب يركن إلى زاوية دافئة في المنزل ويقدم الحب والحنان بالمجان. لكن بعض الأبناء خاصة ممن يتحصل على مراكز علمية أو اجتماعية متميزة، يحاولون بسط نفوذهم داخل أسرهم على شكل آراء وأفكار سياسيَّة يتم فرضها بتعسف على بقية أبناء الأسرة وهم لا يميزون في ديكتاتوريتهم هذه بين طفل وشيخ مسن، ابن أو أب. على الأقل، واحد من أصدقاء الكاتبة الأميركية من كبار السن قد تعرض لهذا التنمر حين قررت ابنته الكبرى تمزيق استمارة مرشحه السياسي لمجرد اختلافها معه في وجهة النظر، وكان قد طلب منها والدها في وقتٍ سابق إرسال الاستمارة بالبريد.
ترى آدمز بأنَّ الأبناء الأكبر سناً الذين يتنمرون على والديهم مدفوعون بمعتقداتهم الخاصة التي تصور لهم بأنهم يعرفون أفضل مما يفعل الوالدان وهم أدرى بما هو جيد لهم، تحدوهم في ذلك رغبتهم في أنْ ينظر إليهم على أنهم بالغون قادرون تماماً على إدارة الأمور بطريقتهم الخاصة، ولا ننسى بأنَّ مخاوفهم بشأن تقدم الأهل في السن واحتمال فقدانهم في أي وقت بسبب المرض أو عدم تلقيهم الرعاية الكافية، هو دافعهم الأكبر لتبني سلوك التنمر.