أسطورة قطف الثمار

ثقافة 2020/11/28
...

ناجح المعموري
 
كلما أنوي تسجيل ملاحظات ما، عن ظاهرة ثقافية او ادبية، تأخذني اللحظة التي أتجهز بها للكتابة نحو تصورات ميثولوجية او انثربولوجية وما يقترب منها من علوم انسانية، واكثرها حضوراً علم الاجتماع والثقافة او أنثروبولوجيا العتبات الاولى، حتى تجدني حاضراً في الاصل.
وان كان تمثيلاً للميتافيزيقيا، لكني اوظف تصور هايدجر عن الاصل وأزخرفه نحو العتبات التي تشف عن مفهوم يكشف عنه وجوده من خلال طقس، او نص، او عمل فني، بحيث تتفتح بؤرة او مجموعة بؤر، تقود القراءة الى وضوحات مساعدة على استحضار ما يساعد الاقتراب من المألوف اليومي الذي لا نقوى على عزله تماماً عن اللحظة الاولى، التي اختزنتها الذاكرة وحافظت عليها ارادتها.
لذا يظل اليومي ماثلاً وقوياً في رواسب سابقة، لأنها هي التي انتظمت ضمن مسارات تطور ــ ربما ــ كان بطيئاً، لكنه في مجريات التطور الحضاري، ليس كذلك، لأنه يحدد مجالاته المرتسمة، عبر مزاولات اعتنى بها الفرد او الجماعة، وظلت متمظهرة سنوات طويلة جداً. 
وهي خاضعة باستمرار للحركة والنمو والتطور، لان العلوم الانسانية التي ترصد تلك المباحث من فحص الظاهرة.
وهذا يعني بأن تنوعات العلوم الاجتماعية، ليست انتقائية بالاختيار الموفر لما يساعد الباحث على العمل، بل هي متجاورة مع بعضها الاخر، ترتضي بسيرورتها التي راضية بترابط حلقاتها، وتمنحها طاقة للوضوح أكثر، والنجاح وهي توظف كآلية فاحصة.
أردت من كل هذه الملاحظات التسلل البطيء والهادئ عبر تحققات الثورة الشبابية ــ لان الشباب نسبتها الاكبر ــ واعاود ملاحظة يوميات مركزة جداً، إذ تثير انتباهي للعلاقة القوية والعميقة مع كثير من التبديات مع الميثولوجيات او الاحالات المساعدة في الأنثروبولوجيا، واكتشفت بأن تداخلات الرمزي او الاستعاري في الافكار او التصورات ليست بعيدة عن الاسطورة المحفوظة في خزان الذاكرة والمصانة بالوعي او اللاوعي، حيث الارادة لاعبة بمهارة لاقتراح شبكات رمزية ذات وظائف ثقافية ومثال ذلك ما أطلقته في عنوان المقال “قطف الثمار” وهذا متخندق بالميثولوجيا وما أعنيه هو الفراديس او الحدائق، التي تضمنت الاساطير السومرية اشارات كثيرة لها، وحصرياً تلك المعنية بالخصب ولعل الدليل الاوضح والاقوى حضوراً بساتين الالهة انانا/ عشتار، والآليات التي خضعت لها كي تحوز المرسوم لها من قبل الالهة او البنية الذهنية الاسطورية التي تفتح منفذاً مكملاً كي، يتسع الخصب من خلاله واشراك الطيور او الكائنات الحية الاخرى بالتعايش مع لحظة الانضاج والتغذي من ثمار اشجار البستان الالهي المقدس.
واول ما يطفر في الذاكرة علاقة الدم بالخصوبة وهذا مكمن متكتم عليه، او مسكوت عنه.
لان الدم أحد أكثر الرموز الاحيائية، المباشرة والتي اختزنتها الذاكرة الانسانية وتكرست في الميثولوجيا والأنثروبولوجيا، حتى هيمنت في الدرس الثقافي والمعرفي وتميزت بحضور جوهري في كل مساعي العلماء لمتابعة ظواهر اجتماعية، عبر اصولها وتمظهراتها النفسانية. الكثير من هذه الملاحظات تقود الى أنموذج بدئي كما ذكرت وهذا الاستحضار او الانتباه له، ينطوي على بعد اسطوري اعتنت به الفلسفة النيتشية، وهو العود الأبدي والموظف في فلسفات دراسة الاديان والعلوم الانسانية وهو أكثر المصطلحات شيوعاً وتكراراً. وكثير من ملاحظاتي لها اقتران بالتكرر الابدي او الدوري، حتى تضع الفلسفة هذا الانموذج بؤرة متمركزة في الظواهر وتسحبها للفضاء الذي تريد، وتنزع عنه الثبات وتعطيه تعدداً وتمنحه تنوعاً. ويبرز هذا المثل الاسطوري بحضور مهم. وعنونة المقال واضح وسهل وبسيط، لكن الاقتراب منه صعب ومعقد. إذا ذهبنا الى نظام الخصب في الحياة منذ البدئية المبكرة، لأنه يشتغل بخفاء وكأن العقل الاول غرس اسراره بهدوء من اجل الحفاظ عليها وعدم التفريط بها. ومثلما قال العالم مارسيا الياد: نحن نعلم ان تقليد مثال يتجاوز حدود، واستعادة مسلسل ينطوي على قدوة وأنموذج واجراء قطعية مع الزمان الدنيوي الخالي من القداسة ــ بواسطة منحة توصل الى الزمان الكبير ــ انما تؤلف علامات اساسية للسلوك الاسطوري. أي سلوك انسان الازمنة الغابرة، الذي وجد في الاسطورة مصدر وجوده/ مرسيا الياد/ الاساطير والاحلام والاسرار ص 28.
أدرك الكائن الاول العلاقة بين مغروساته في البساتين المقدسة وبين الارواء. إذ ذهبت اسطورته البدئية على حضور الدم / الطاقة الاحيائية في الكائنات الحية والمساعدة على انتظام جوهرة الخصوبة. ولان الشجرة كائن حي يتغذى ببعض مما يساعد الانسان على النمو والحياة، ويصل الى الانبعاث.  لذا تكشف لنا أحد اساطير آدم الاولى بأنه سقى شجرة العنب الاولى التي غرسها بالدم ونشأت لحظة تجاور وتداخل بين العنب والنبيذ. وتحوله ــ النبيذ ــ الى رمز ثقافي ومغذ لطقوس الديانة المسيحية. ومعروفة لنا علاقته مع السيد المسيح، واشار العالم مارسيا الياد الى ذلك بالقول: تروي الاسطورة قصة مقدسة وحدثاً وقع في الزمن، الزمن الخيالي، زمن البدايات بعبارة اخرى، تحكي لنا الاسطورة كيف خرجت حقيقة ما الى الوجود. بفضل تأثير بعض الكائنات الخارقة للطبيعة، ولا فرق بين ان تكون هذه الحقيقة كلية كالكون مثلاً او جزئية. كأن تكون جزيرة او نوعاً من نبات او مسلكاً يسلكه الانسان، اذن الاسطورة هي دائماً سرد لحكاية “خلق” ولا تتحدث إلا عما حدث بالفعل، عما قد ظهر الى الوجود، وتعرف شخصياتها بما قامت بفعله في زمن البدايات. هكذا تكشف الأساطير عن نشاطها الابداعي وقدسية اعمالها، انها تصف الطرق المختلفة التي يدخل بها العنصر المقدس الى العالم / مارسيا الياد/ مظاهر الاسطورة/ ت: نهاد خياطة/ دار كنعان/ 1986/ دمشق/ 1991.
قطف الثمار، نوع من تحقق النجاح العظيم. وهو اسطورة الكائن الاول الذي ابتكر اسطورته ووضع عقله في حضور فاعل وقوي. وأستطيع ان اتعامل مع “قطف الثمار” بوصفه حلماً انسانياً، إذا وظفنا مفاهيم وافكار “يونغ” إذ قال “الاحلام هي المادة الثرية التي تتجسد فيها الانماط الاولية للاشعور الجمعي في أبلغ صورها، فهي كالرموز تحدث بطريقة عفوية لا تبتدع. انها ــ أي الاحلام ــ المدخل الرئيس لكل معرفتنا عن الرموز والرمزية، لذلك شبه “يونغ” العمل الفني بالحلم الذي يشتق وجوده من الارض المجهولة في عقل الانسان/ د.أمل مبروك/ الاسطورة والايديولوجيا/ دار التنوير/ 2011.