الشحنات الدلالية والترميز في (مسدس صغير)

ثقافة 2020/11/29
...

علوان السلمان
 
 
القصة القصيرة موقف مؤطر بإطار الحياة.. الكاشف عن أدق الدلالات النفسية والعلاقات الاجتماعية.. كونها عالما مبنيا على استلهام الوقائع والاحداث التي يقتنصها منتج (قاص) واعٍ.. يمتلك قدرة على استبطانها والخروج بها من دائرة الحدث الطبيعية الى عوالم الشمولية.. بنسج يعتمد التكنيك الفني الدينامي الحركة ما بين الزمكانية وحركة الشخوص والكشف عما يدور بدواخلها باستخدام أسلوب الحوار الذاتي (الداخلي) والموضوعي (الخارجي).. لذا فهي تعبير عن الواقع المتداخل مع الخيال لتشكيل وظيفتها الايحائية.. والجمالية من خلال قدرة المنتج على تحريكه وتفجيره بوعي كاشف عن خزين معرفي وثقافي.. وباستدعاء المجموعة القصصية (مسدس صغير) التي نسجت عوالمها النصية أنامل القاص حنون مجيد وأسهمت دار امل الجديدة في نشرها وانتشارها/2020، كونها تركز على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية النص السردي الذي يحدد الوعي الاجتماعي..
(أطرق برأسه واستسلم للموعد الهلامي الذي كنت اريد به ان احقق معه صداقة كنت احسب انها ستكون جميلة.. لم نلتقِ على مائدة واحدة سوى تلك المرة التي عدها فريدة فاندفع لدفع فاتورتها.. اما اللقاءات الاخر فكانت على مستوى ما يلتقي عليه مرتين في الاسبوع.. موظفون.. متقاعدون يعملون طردا للملل في دائرة ثقافية تقبع في اقاصي بغداد بأجور يومية رمزية..
فالنص يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية والوصفية بقدرة فنية في التقاط المشاهد الحياتية عبر لغة تستخدم الحوار الذاتي الداخلي للكشف عن دخيلة الشخصية ومدى تفاعلها والخارج بلغة تمتلك دلالاتها لخلق تركيبة مكونة من الحلم المتداخل والواقع فيضفي على نصه تسجيلية تمتلك قدرتها على التقاط اللحظة باستخدام أسلوب التصوير السريع للمشهد والاستعاضة عن النقص في الجانب الحياتي. لذا كان نصه يسير بنسقين متداخلين: هما الواقع والتخييل..
(نظراته التي تلاحق المرأة تبدو عابرة، كانت في الوقت عينه مستثارة بصورة ما.. لا أدرى إن كانت صورة زوجته.. أفكر ان ثمة شيئا صعبا يدور في داخله لا يقوى على البوح به، وكنت أعجب كيف ان جسده الهزيل ينضم عليه ولا يتحطم بهواجسه.. بدأت أراقبه، أتابع تموجات روحه الصامتة، واصغاءه لقصيدة الرجل الثمل، واهتزازات رأسه على أبياتها المتلاحقة..)  ص15.
فالمنتج (القاص) يسجل لقطة مشهدية غنية بحوارها الدرامي الذي نفذت بوساطته الى أعماق نفسية واجتماعية.. وكشفت عن دواخل الشخصية بما امتلكت من إيحاء الجمل وتكثيف العبارة والتضمين الشعري. إذ يظهر الأنموذج الانساني كوحدة أساسية.. أنموذج ينبثق من واقع متشظٍّ.. لذا فالنص يبدأ من مستوى الوعي ويغيب في مشاهد ويغوص داخل مستوى اللاوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك والواقع. لذا كان النص يسجل بعض تفاصيل الحياة وتعامله مع العادي ليشكل همها.. وبالرغم من ذلك فإنها لا تتجرّد من دفئها ولحظتها المشبعة برائحة الحياة وتجاوز الرتابة بفضل شخوصها النامية المكتنزة بوعيها الاجتماعي وانفجار هواجسها بالحيوية فتحقق حضورها من زوايا متعددة لتؤلف مشاهد تمكن المنتج (القاص) من اقتناصها بحسه ومتابعته الذهنية المركزة للعثور على موقف يحققه لذاته بعيدا عن الشخصية القصصية.. الباص السياحي في قلب عمان، صغير مكيف وحديث لا يتسع الى أكثر من اثني عشر راكبا، غير ملزم بحضور أحد، فهو محدد بزمن معين ينطلق فيه.. حتى اللحظة، هو رابض في مكانه بصمت بارد، سائقه يتقدمنا في مقعده الأمامي، وكل مرة ينظر فيها الى ساعته يشعرنا أن الوقت قد أزف وانه سينطلق الآن.. ضمن حدود محطة الباص كنا نشعر ان الزمن مغلق، محاط بجهات أربع تجثم على مداره اللا مرئي..) ص89.
فالنص يتشكل من مجموعة من التداعيات التي يوظفها المنتج (القاص) بقصدية ليعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه حتى ان النص يصير عنده قطعة من حياة متحركة لا تعرف السكون بمشاهدها التي تكشف عن وعي سردي، فضلا عن اعتماده على عنصر المفاجأة والتقطيع الذي يتطلب تكثيف الصورة والحدث.. فضلا عن ان النص يسير بخطين متوازيين: اولهما خط المفاجأة والسير نحو مدينة (جرش)..
(تعالي كارولينا نحث الخطى، نحو ذلك الباص الرابض في المحطة قبل ان ينطلق بغيرنا، كارولينا لذتي الأعظم الساعة، توّاقة الى جرش مثلما أنا توّاق إليها كذلك..) ص89.. وثانيهما خط الوداع ونهاية الحلم..
(كانت كارولينا طبعت على أسفل صفحتها، حيث كان ينتظر، بقلم ازرق عبارة (اليك صديقي، فهناك حيث أكون، يكون بانتظاري قدري المحتوم.. حقا كانت رفقة جميلة) حلمك القصير...كارولينا) ص103.. باعتماد ألفاظ شفيفة تلامس الحياة ونبضها اليومي متعانقة معها بألفة مانحة المضمون السردي ايحائية شاعرية مما اضفى على جمله وتراكيبه المشهدية طراوة واضحة المعالم دغدغت مشاعر المستهلك (المتلقي) وحركت خزانته الفكرية من خلال نسيجها اللغوي المساير للمساتها الطرية بشعريتها المعبرة عن بواطن النفس واضطراباتها وانتقالاتها المفاجئة. 
وبذلك قدم القاص نصوصا مملوءة بشحناتها الدلالية وترميزاتها.. فضلا عن قدرته على التقاط تفاصيل الواقع وتفجيره.. مع املاء المساحات الزمنية واشغالها بالأحداث النامية والمقترنة باستجابة شخوصها المتفاعلة وحركة السرد.