اللّغة العربيّة.. تحديات وأزمات

ثقافة 2020/11/29
...

نزار قانصوه
تحتل اللغة العربية مركزا مرموقا بين لغات العالم، تسلقت وحي القرآن الكريم في «اقرأ» لتتربع على عرش 22 دولة محفوفة بوعد من الرحمن ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾، إلا أنها تعيش اليوم الكثير من التحديات والأزمات على الساحتين العربية والأجنبية.
ما هي أسباب تدني مستوى اللغة العربيّة لغير الناطقين بها في القرن الحالي؟
نلاحظ في الحقبة الأخيرة من الزّمن تراجعًا مستمرًّا في مستوى تعلّم اللّغة العربيّة في الدول الإسلاميّة غير العربيّة كماليزيا وأندونيسيا وبنغلادش وتركيا وغيرها من الدول التي اعتادت أنْ تتعلّم العربيّة بشكلٍ جيّد كون سكانها ترعرعوا في بيئة إسلاميّة أوجبت عليهم تدريس القرآن الكريم باللّغة المُنزل بها.
وبعد عقد المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو) عام 1974 اجتماعها في الأردن وغيرها من المؤتمرات والندوات التي تضمّت العديد من الخبراء المتخصصين في مجال اللّغة العربيّة للبحث في مشكلاتها وتحدياتها على الساحة العربيّة وإلى يومنا هذا، تبيّن أنّ اللّغة العربية مهجورة في عقر دارها نتيجة اهتمامات الدول العربيّة باللّغات الأجنبيّة على حساب العربيّة وضعف العناية بتحديث طرائق التعليم التربويّة، أضف إلى سيطرة اللّغات الأجنبيّة على كثيرٍ من المناهج الدراسيّة ومؤسسات الدولة التربوية والصحيّة والاجتماعية والخدماتية وخصوصًا في سوق العمل، ولا ننسى تفشّي لغة الانترنت المستحدثة إلى جانب العاميّة، ناهيك عن الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة والحروب التي تعصفت بعددٍ كبيرٍ من الدول العربيّة بشكلٍ شبه مستمرّ بين لحظة وضحاها، مّا سبب هجرة الكثير من المواطنين إلى الدول الأجنبيّة، كلّ هذا زعزع صلة العرب بلغتهم الأمّ وضعّف الانتماء إلى تراث الأمّة.
بالإضافة إلى العديد من المشكلات والصعوبات التي يواجهها الأساتذة والطلاب في تعليم وتعلّم اللغة العربية لغير الناطقين بها وخصوصًا في الدول الإسلاميّة، كتأثير اللغة المحليّة في العربيّة واعتماد مناهج تقليديّة في التدريس لا صلة لها بالحياة النابضة وبالازدواجية بين عقل المتعلّم وعاطفته، ما يجعله 
يهرب منها إلى لغات أجنبيّة أخرى، ولا شكّ في أنّ نظام العولمة والثورة الصناعيّة الثانية وسيطرة ثقافة الأقوياء حول العالم سبّبت انبهارًا بلغاتهم على حساب لغة القرآن الكريم، فأضحى اعتمادها كمادة ثانويَّة في مناهج التعليم.
لذا، إلى أي حدّ يمكن اكتساب اللغة العربيّة من دون الاختلاط بالناطقين بها؟
إنّ جُلّ الدول الأجنبيّة التي تحاول أن تُدرّس العربيّة لسكانها لا تؤمن بضرورة الاختلاط مع الدول العربية لاكتساب اللّغة منها، وذلك نتيجة تقاعس أغلب الحكومات العرب بالدرجة الأولى عن تقديم مُنح دراسيّة للطلاب الأجانب لاستقطابهم مدّة زمنيّة ومن ثمّ تخريجهم كأساتذة متخصصين لتدريس اللغة العربية في بلادهم، بناءً على ذلك نلاحظ ضعفًا عند غير الناطقين باللّغة العربيّة من ناحية النطق والتحدث لأنَّ سمة تكلّم اللغة بأحرف (لسانيّة- شفويّة) سليمة لا تؤخذ إلا بالاختلاط والمعاشرة مدة زمنيّة، ناهيك عن ضعف مستوى التعليم سواء في تعيين أساتذة كفوئين يمتلكون مقوّمات اللّغة الحقيقيّة قراءة وكتابة أو من حيث تطوير المناهج بما يتناسب مع واقع المجتمع داخل كلّ دولة.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد نظام الدين (رئيس قسم اللغة العربية في جامعة راجشاهي في بنغلادش): «الرغبة قليلة جدًا في تعلّم اللغة العربية في شبه القارة الهندية وذلك يعود إلى استخدام مناهج لا تتآلف والبيئة لأنّ اعتماد اللّغات الأجنبيّة الأخرى يكون في المراتب الأولى، لأنّ المتعلّم يستصعب مخارج حروف العربيّة ويستسهل الأجنبيّة» (ندوة دوليَّة افتراضيّة حول طرق تدريس اللغة العربية،8 - 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) .
كلّ هذا يحتّم استخدام اللّغة العربيّة وسيلة وغاية في الوقت عينه، من دون استعمالها كوسيلة فقط في الأمور الدينيّة التي تفرض اعتماد العربيّة في قراءة القرآن الكريم على سبيل المثال لعدم الحاجة إليها في سوق العمل، وهذا لا يعني ألا يتمّ التركيز على مخرج النطق في تدريس القرآن عند المبتدئين من جهة، والاستفادة من البرامج والتقنيات الرقمية الحديثة في طرائق التعليم كتحميل تطبيقات سلسة في تدريس اللغة والاستفادة من الورش والمؤتمرات والأفلام الوثائقية التي تعقد عن بُعد لاستسهال حضورها، كما تُعنى بمعالجة أزمات اللّغة وتحدياتها من جهة أخرى.
أضف إلى العمل على دخول العربيّة في برامج الكمبيوتر ووسائل التكنولوجيا التي يستخدمها المواطن العربي وغير العربي بشكلّ يوميّ، بوصفها مفتاح الحضارة الحديثة التي لا يمكننا أنْ ننعزل عنها.
وفي المقلب الآخر، نجد انخفاضًا في تعليم العربيّة من غير الناطقين بها مقارنة مع ارتفاع تعليم العرب للغات الأجنبيّة، فلا بدّ هنا من تعزيز ثقة العرب بلغتهم أولاً ومن ثمّ تعاون الدول العربيّة مع تلك الدول التي ترغب في تعلّم العربيّة ثانيًا، وهذا يسهم في تطوّرها وإعادة اعتبارها وتلاحم صلة الارتباط بين الدول تحت رداء العربيّة.