فراشات على كراسي متحركة

ثقافة 2020/11/29
...

زعيم نصار
 
 
بمرأى ومسمعٍ منّي في هذه الأيام، تتلوى أفعى ماكرة، تفحُّ السمومَ، فتضطربُ الأمكنةُ، ويرتجفُ البركان. جرحي له عينان كجمرتين، مصباحين للطريق، شعاعٌ للمرارة، رسائلي تأكلُها النيران. في كلِّ جرحٍ لهبٌ لإنقاذ الغرقى، أحلامي تغرقُ في الضباب، مجروح بزلة اللسان.
رأيتهم يرجعون الى الساحة مراراً، كي يكتملوا بجروح أخرى، تنتفضُ المدينةُ، تكتظُ جدرانُها بدم اللافتات، يخنقُها الضجيجُ، تهدمُ بيوتَها الفوضى، يحاصرها القنّاصون من كلّ صوب، وقد ملؤوا الطرقات، في الأزقة، على الجسور والمفترقات. 
أبهى ما يكون أن تموت برصاصةٍ بين الحاجبين، حينها ترتفعُ شاهقاً فوق حرير الحنين، أبهى من الموتِ بلدغة أفعى،ـ بالجنون، بالسكتة الدماغية، بفقر الدم، بالسُّل، بالسرطان المتفشي سراً بين الشيوخ والصبيان. فإن لم تمتْ بطلقة واحدةٍ ستعضُّ على أصابعِ الندم، حينَ تلفظُ النفسَ الأخير. أنتَ اللهبُ الذي علّقهُ الأسى على المشعلِ. أنتَ النايُ بأنينه يلعبُ المصير، رشيقُ الصوت، شديدُ الحزنِ والصدى. أنتَ السهمُ الذي يسددهُ قوسُ الأمل. يستلُّ الشيءَ من الشيء، يطهّر الجسر بماء روحه، ويصطفيه لجلسةِ البرق النافذ، أنتَ الصقرُ، بين جناحيكَ صورة للمدينة، أنتَ الأعماق، هامةُ الشجرة، قمةُ الزقورة، رأس الهرم، كلّ ما لهُ نهرٌ وملاك.
 بمرأى ومسمعٍ منّي 
في هذه الأيام، 
تهبّ السمومُ، ترتجفُ الأمكنةُ، ينفجرُ البركان، فنسقطُ في الهاوية. 
بمرأى ومسمع منّي 
أصابَ رأسَكَ نيزكٌ، فاختلطتْ والتبستْ صرختكَ بالدم. 
انهمر صوتُكَ مع دموعِ القلب. 
انتفضَ مضرّجاً، شاهقاً للسماء حتى أصبح نجماً أحمر، طوفي هنا، طوفي أيها النجومُ، نجومُنا، أيتها الأرواح. انفجرتْ زجاجةُ أيامِنا المخصّبة بالديناميت، هبّتِ النيران على الطرقات، نحو الجسور، نحو القصور، نحو المجارير، ففرّتِ الجرذان. 
كلُّ شيءٍ هنا، يطيرُ نحو اشتعاله، فراشات على كراسي متحركة، أوتارُ القيثارة، الذكرياتُ، القشُّ المتروكُ في الزوايا، وصايا المصباح المهشّم، رجفةُ الطفل، حمامةٌ في جدارية الطيران. كفُّك في كفّي، ابقَ معي، اركضْ هذا مغتسلٌ بارد، اركضْ، أقدامُكَ أقدامي، ابتسمْ، رفرفْ كفراشةٍ، فمُكَ فمي، ابتسمْ حتى تموت محترقاً بنارِ الحرية، ببرد النار، أختفِ في أعماقِ الغمامةِ التي تمطرُ دماً، حينها يرتطمُ صوتُنا بجدارِ الظلام، فيرجعُ إلينا الصدى، وهو ينبضُ صرخةً، صرخةً، صوتُنا نهرُ الصرخات، موقدُ الجمرات، جرحاً يتنفسُه الدخان. أشجار لا يأخذها نعاسٌ ولا نوم، لها الينابيع، لها أنضج الأثمار ما اعتلى منها، وما انخفض. لها ما انبسط، وما تعرّج. هناك ثعالب على الضفاف. أرانب مذعورة في الأوكار. ذئاب تعوي تحت القمر.
فراشةٌ على كرسيّ متحرك في المنعطف الذي تليه الرياحُ، هي سترتُكَ الواقية، على جانبيها قممٌ، اسلكها، كن أقرب إلى الدخان، علّم الواقفينَ الطيرانَ، وأن يتذوّقوا جمرةَ الأهداف، امسكِ المصباح، رفرفْ معها، نصف فراشة بجناحٍ واحدٍ، لكلِّ صوتٍ قنديله، استبقِ اللمعان، جابه الشيطان بصمتٍ وبعيون تحمّرُ من توهجِها الغازات. لا تمكث طويلاً في مكانٍ واحدٍ، كما تمكث الأسود. لا تأكل من أواني متفرقة، ستفيضُ دموعُ أمكَ غزيرةً كمياه نهر الفرات.
أنتَ بحاجة لغابةٍ، تتقدمُ نحوها، تغطيكَ بسحر الغموضِ وبريق البهاء.
بمرأى ومسمعٍ منّي 
في هذه الأيام، 
تهبّ السمومُ، ترتجفُ الأمكنةُ، ويضطربُ البركان.
بمرأى ومسمع منّي 
انتفضَ مضرجاً، شاهقاً للسماء حتى أصبح نجماً أحمر، الحياةُ تتعرقُ خجلاً، عمرُكَ ماءُ الجرّة المنكسرة. لا محو للذاكرة، البابُ بابكَ والمدينة مأواك. اعطني نافذةً، اعطني العاصفة، هذا الخراب سطو الأمراض على العافية، نهارُكَ شديد الاحمرار، حيطانه منخوبة بزخاتِ الرصاص.
حقيقتنا أفعى ماكرة،
نحنُ على ما يرام، كما يتهيأ لي وأتخيّلُ.
يتدفق الينبوع، فنعرفُ الاسرار
القتلُ عادتُنا القديمة،
الإنسانُ بشيطانهِ يربّي الجنونَ، يحملُ على أكتافِه صخرةَ الضمير، حيرةَ البؤس وبحيرةَ اليأس. لم يستطعِ الصمتَ، ولم يقدر على الانتظار، ملأ جيوبه بالأخطاء
كي تطوف بها الرياحُ من نهر الفرات في الناصرية، إلى باب المدينة الأول، قال شابٌ للملكِ الذي استباح العذارى، اقتلِ الثور السماوي، اقتله، اقتله في غابة الأرز، واغسلْ قلبك من عتمة الليل.
غسل الملك يديه في صحن الطعام.
وقال: لست أنا القاتل. 
عند الظهيرة على الشاطئ قال كاهن المدينة للقنّاص اقتلْ نديمكَ في الساحة، واغسلْ عقلكَ من الرأفة، اقتله في المنعطف، واجعلْ من دمه عطراً، رشَّ هذا العطرَ في الهواء، كي نستنشقَه جميعاً.
غسلَ القنّاص عقله
وقال: لست أنا القاتل. 
إنها القلوب التي يسري في عروقها السّم، سمُّ القتل، إنها العقول، التي استوطنها هذا النسغُ، وقد جرى في روح البرق، ودبَّ في الحياة.
حقيقتنا الماكرة،
جرحُنا الأول
ما زال عنيداً حتى هذه اللحظة، يستبدُّ بنسلنا، ويقيمُ في الذاكرة حيث نقدسُ ثورَ السماء هنا على ضفافِ دجلة.
نعود لبيوتنا منكسرين
نعودُ كأننا، كنّا نعبر جسراً بين موتين،
صرنا ندفن صوراً لفضائح بين ضفتين،
صرنا ندفن صوراً فاضحة للمحتمين وراء انحدارك أيها التاريخ، تمرُّ عليك أحلامنا
فتنساها ولم تكترث، تمرُّ عليك الأيام عجلى، فيختفي وهجُك،ـ تتسلّقك أعماقنا
فلم تجد لنا حلاً، هكذا أنت أيها التاريخ. لم نعد بحاجة إليك، كن منصفاً،  فلتكن لنا ضفة، ولك ضفة أخرى، الآن وقد جفَّ لمعانكَ، انكسر جسرُك بين لحظتين، انكسر بين جيلين، انكسر بين مدينتين، كأنك لم تكن ممتداً بيننا كل هذه السنين.
بعد فيضِ دمكَ، استيقظتِ المعجزات، 
تتلوى حياتنا، أفعى ماكرة،
انتشر الوباء، وسيجيء الطوفان، يُجيء ملكُ السحاب بثلاث غمامات موشّحة بالغضب والسخط من نفحات النيران، تعصفُ رياح عاتية تكنسُ الضباع، يهبُّ بعوض وجراد، تنهارُ سقوف وأبواب.
بعد فيضِ دمكَ، استيقظتِ المعجزات،
لمّا انتهيتَ الى الفرات، فاذا بكَ تمشي على الماء، يرفعُكَ الموجُ، ويضعُكَ أخرى،
والسماء تمطرُ ماء الخلاص.