محمد صابر عبيد
توصف مساحة الإصغاء بأنها المساحة الأكثر رقياً في شخصية الإنسان، ففيها يتعلم الكثير مما لم يكن على علم به سابقاً، والإصغاء آلية تحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من الوعي والتمثّل والصبر والإدراك والإحساس بالمسؤوليّة، ومن لا يعرف كيف يصغي لن يتمكن من إقناع الآخر بوجهة نظره لأن من لا تصغي له لن يصغي لك، ومساحة الإصغاء تمنح المصغي فرصة تمثل الكلام وفهمه واستيعاب مراميه ومقاصده على نحو يسهل معه مناقشته والسجال معه، وهي فرصة للنظر إلى الآخر بوصفه نظيراً مساوياً له وجهة نظر تساوي وجهة نظر الأنا وتعادلها من حيث المبدأ، مما يؤسس لتبادل فهمي يستوعب فيه أحدهما الآخر.
وصولا إلى أعلى درجات النضج والتفاهم الممكن بين الطرَفَين، في السبيل إلى تخصيب منطقة الإصغاء بوصفها الفضاء الأرحب للتواصل والتبادل والتفاهم وإشاعة روح التحضّر والرُقيّ نحو اللقاء لا الافتراق.
يقول الحكيم الرومانيّ الرواقيّ الشهير "زينون" في تقدير فلسفة الإصغاء "إنّ لنا لساناً واحداً وأُذنَين؛ لنعلم أنّنا ينبغي علينا أن نصغي ضعف ما نتكلّم"، إذ يختصر قوله هذه الفلسفة ويضع لها قاعدة عضويّة ذات طبيعة جسديّة، فضلاً عن طبيعتها الأخلاقيّة، في حين يبدو إنسان هذا العصر وكأنّه يقلب المعادلة في عنادٍ أعمى أو أحمق مع الطبيعة البشريّة بمرجعيّتها العضويّة والأخلاقيّة،فيعطي لِلسانهِ المقامَ الأوّلَ ويطلقُهُ ليقول ما يشاء في تجاهل للآخر وإلغاء له، وينفتح على ما يريد أن يقول بكثافة وزخم وانفعال وقصديّة لا يترك فيها مجالاً لردّ فعل الآخر السامع، فيتحرّك على موجة واحدة تحاول احتكار المشهد وتجييره لصالحها، هي موجة الإرسال التابعة له بقصديّة أنانيّة ناقصة الوعي والفهم والثقافة، ولا ينظر بعناية مطلوبة وضروريّة للموجةٍ المقابِلةٍ التي لها مثل ما لموجته من رغبات وحاجات وطموحات
وآفاق.
إنّ الهمّ الأوّل له هنا هو توصيل فكرته وفرضها على مشهد الحوار مع الآخر، وضخّها بأعلى درجات الإقناع من طرف واحد يخصّه وينتمي له انتماءً استحواذياً مطلقاً، يُلغي تماماً موقف الآخر ويحرمه من إبداء رأيه فيما يقول –موافقةً أو اعتراضاً أو رفضاً-، هذه هي سمة العصر في تحويل اللسان الواحد إلى لسانَين، واختصار الأذنَين إلى أذن واحدة ضيّقة ومحدودة العمل ولا تصغي إلا إلى ما يعجبها ويروق لها، وهي تعكس المنظور العام في تحويل العلاقة بين الأنا والآخر إلى علاقة انقطاع لا تواصل، وعلاقة هدم لا بناء، وعلاقة اضطهاد لا حوار شفّاف، وعلاقة إلغاء لا إثبات، وعلاقة عزل لا تفاعل.
الأصل في العلاقة بين الأنا والآخر هو "الحوار" الذي يعني تقاسم حصّة الأقوال الحاصلة فيه بين الطرفين على نحو متساوٍ تماماً، لأنّ أيّ خلل في توزيع هذه الحصّة العادلة لأيّ سبب كان من شأنه إيقاع الضرر بالطرف الأقلّ نصيباً من القول، وربّما تتمّ الغلبةُ "غير القانونيّة وغير الفعالة وغير المنتِجة" لصاحب القول الأكثر بحكم ما أتيح له من فُرصٍ إضافية لإثبات وجهة نظره على حساب وجهة النظر المقابِلة، لأنّ الصراع الجدليّ المنتِج في هذه الحالة يقوم أساساً بين القول والإصغاء حيث يجب أن يحظى كلّ طرف منهما بحصص متساوية، تقوم على حِكمةِ منحِ القول حصة الثلث والإصغاء حصّة الثلثين على أساس أنّ القول يحتاج إلى فهم وهضم وتحليل، كي يكون الحوار قادراً على الوصول إلى نتائج مُرضية يتقاسمها الطرفان ويضيف نتائج جديدة للمعرفة.
تنطوي فلسفة الإصغاء على احترام الآخر المتكلّم بصرف النظر عن طبيعة الكلام وهويّته وقيمته، المهم أنّك بإصغائك تُشعِر المتكلّم بأنّك تحترمه وأنّ ما يدلي به هو مهمّ في نظرك، على نحو يدفعه أكثر لاحترامٍ يبادلك إياه حين يأتي دورك في الكلام، فضلاً عن أنّ الإصغاء يسلّحك بسلاح قويّ لمواجهة الآخر في سجالك معه، فالمثل القائل "من تعلّمَ لغةَ قومٍ أَمِنَ شرّهم" لا يعني اللغة الأخرى غير لغتك التي تتحدّث بها فحسب، بل يعني في طبقة سيميائيّة من طبقاته خطاب الآخر الذي يريد أن يوصله إليك حين يتكلّم، ففهم قوله يسهم في مساعدتك كي تقطع نصف الطريق إليه ويضع في يدك سلاحاً واضحاً وصريحاً لمواجهته.
ثمّة من هم بحاجة ماسّة لكي نصغي لهم نظراً لما عانوه من اضطهاد يفرض عليهم الإصغاء فقط في ظلّ ظروف قهريّة معيّنة، فما يختزنه لسانهم من قول وكلام بحاجة نفسيّة وعاطفيّة إلى تفريغ في أذان تسمعه فقط، وإلا سيتحوّل إلى بركان قابل للانفجار في أيّة لحظة قد تدمّر صاحبها وتدمّر من لم يمنحه هذه الفرصة، وقد أوجدت بعض الشعوب المتحضّرة ساحات خاصّة،تتجمّع فيها مجموعة من الناس تتطوّع للإصغاء فقط، فيأتي كلّ من لديه كلام من هذا النوع يريد أن يتخلّص منه ويرتاح، فيقول ما يشاء على مسامع العشرات من المتطوّعين وهو يصغون إليه بعناية ومقصديّة عالية، ولا يبرحون مكانهم حتّى يُلقي آخر متكلّم خطبته فيمضي هو في حال سبيله، ويمضون هم جميعاً بعده وقد أدّوا مهمة إنسانيّة راقية، عبّروا فيها عن احترامهم لإنسان يبحث عمّن يسمعه ويتلقّى خطابه في المسافة الجماليّة الرائعة بين اللسان والأذن.