الطفولة الشاعرة

ثقافة 2020/12/01
...

علي وجيه 
 
يتحدّثُ القاص الراحل محمود عبد الوهاب، في آخر كتاب أصدره قبل وفاته (شِعرية العمر)، عن تخيّله مع أصدقائه، أنّ الأعواد الخشبية التي يمتطونها، ويلعبون بها وهم أطفال، صانعين منها خيولاً متخيّلة لساعاتٍ طويلة، أنها منحتهم إحساس الخيل الفعليّة، وركبوها ولعبوا معها بشكل فعليّ، وهذا ما سمّاه بـ(شِعرية العمر)، مُشيراً بطريقة غير مباشرة عن التخييل الذي يفوق بشكلٍ كبير إحساس الواقع، فالتخييل الذي ينجح بشفاء مريض من داء مستعصٍ، بما يُسمّى علمياً بـ”البلاسيبو”، فمن المؤكد أن ينجح كذلك بإضفاء السحر على الذهن، ذهن الطفل خصوصاً، ناهيك عن بعض النصوص المستمرة بإسحار كبار السن حتى اللحظة، بين الحين والآخر!
كان ذلك في مرحلة السادس الابتدائي، حين وقعتُ بحبّ طالبة معنا في الصف، وتعرفتُ على ماركيز بذات العام، ومضت البنتُ إلى لا أعرفُ أين، وبقي ماركيز، الذي منحني ظهيرةً سحرية، لم تتكرر فيما تلا ذلك من عمرٍ مليء بالشِعرية.
ماركيز، في روايته الصغيرة، أو قصّته الطويلة (ترجمها كامل يوسف حسين بوصفها نوفيلا، بينما أدرجها صالح علماني في المجموعة القصصية الكاملة لغابو)، عن “إيرينديرا الطيّبة وجدتها الشيطانية”، التي جعلتها تعمل في البغاء، لإيفاء دينها بعد أن أحرقت قصر الجدة، لأنها كانت مرهقة، وتعمل وهي نائمة.
يزورها في خيمتها ابنُ مهرّب ألماس، أوليسيس، ويقعُ في حبها، تلك المرأة ذات البشرة البرتقالية، كنتُ أندمجُ مع القصة، طفلاً محروماً من البنت التي يحبّها، وأتخيّلُ، ثم أتيقن، أن حبيبتي في شعبة السادس “ب” كانت ذات بشرة برتقالية، مثل إيرينديرا، حتى قال ماركيز “عندما رجع أوليسيس حاملاً أدوات التقليم طلبت منه أمه أن يناولها جرعة دواء[..] وما إن مسّت يداه الكوب والزجاجة حتى تغيّر لونهما، عندئذ مسّ عابثاً إبريقاً زجاجياً كان على المنضدة [..] فتحوّل كذلك إلى اللون
 الأزرق”.
أغلقتُ الرواية الصغيرة، وهبطتُ السلّم إلى المطبخ، حاملاً نار حبّي لجميلة السادس “ب”، وفتحتُ أدراج المطبخ، وبدأتُ ألمِسُ الأكواب بغيةَ تحويلها إلى
 زرقاء.
وتحوّلت، في ذهني، بهذه الشِعرية التي أحاطنا بها ماركيز، شِعرية إقناعك بأنّ بإمكان العاشق أن يغيّر لون زجاجة، وشِعرية عبد الوهاب التي أقنعك أن بإمكان خشبة طويلة، أن تتحوّل حصاناً، في ظهيرة الأطفال التي لا تنتهي!