التاريخ الأنيق للتباعد الاجتماعي

ثقافة 2020/12/01
...

إيناف رابينوفيتش
ترجمة: جمال جمعة
فيما يتصارع العالم مع الفيروس التاجي، فإن «التباعد الاجتماعي» أضحت كلمة طنّانة في هذه الأوقات الغريبة.فبدلاً من تخزين الطعام أو الهرع نحو المستشفيات، تقول السلطات إن التباعد الاجتماعي (تعمّد زيادة المساحة المادية بين الناس) هو أفضل طريقة يمكن للناس العاديين أن يساعدوا بها في «تسطيح المنحنى» ووقف انتشار الفيروس.
قد لا تكون الموضة هي أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نفكّر في ستراتيجيات العزلة. لكن بصفتي مؤرخة تكتب عن الدلالات السياسية والثقافية للملابس، فأنا أعلم أن الموضة يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في مشروع التباعد الاجتماعي، سواء كان الفضاء الذي يتم إنشاؤه يساعد في معالجة أزمة صحية أو إبعاد الخاطبين المزعجين.
لطالما خدمت الملابس كوسيلة مفيدة للتخفيف من الاتصال الوثيق والتعرّض غير الضروري. في هذه الأزمة الحالية، أصبحت أقنعة الوجه إكسسواراً للأزياء التي تومئ: «ابقَ بعيداً»!
أثبتت الموضة أيضًا أنها نافعة أثناء الأوبئة السابقة مثل الطاعون الدّبلي، عندما ارتدى الأطباء أقنعة برؤوس مدببة تشبه مناقير الطيور كوسيلة للحفاظ على مسافة من المرضى. بعض مرضى الجذام أُجبروا على وضع قلب على ملابسهم وتعليق أجراس أو مصفاق لتحذير الآخرين من وجودهم.
ومع ذلك، في أغلب الأحيان، لا يتطلب الأمر جائحة عالمية النطاق لكي يرغب الناس في إبقاء الآخرين على مسافة ذراع.
في الماضي، كان الحفاظ على المسافة (خصوصاً بين الأجناس، والطبقات، والأعراق) مظهراً مهمًا من مظاهر التجمعات الاجتماعية والحياة العامة. لم يكن للتباعد الاجتماعي أية علاقة بالعزلة أو الصحة؛ كان الأمر يتعلق بالإتيكيت والطبقة. وكانت الموضة هي الأداة المثالية.
خذ مثلاً «القرينول Crinoline» من العصر الفيكتوري. هذه التنورة الكبيرة الضخمة، التي أضحت موضة عصرية في منتصف القرن التاسع عشر، استخدمت لإنشاء حاجز بين الجنسين في البيئات الاجتماعية.
في حين يمكن إرجاع أصول هذه الموضة إلى البلاط الإسباني في القرن الخامس عشر، فإن هذه التنانير الضخمة أضحت دلالة على الطبقة في القرن الثامن عشر. فقط أولئك الأثرياء بما فيه الكفاية لتجنب الأعمال المنزلية الروتينية يمكنهم ارتداؤها؛ فالمرأة ستحتاج إلى منزل ذي مساحة كافية لتتمكن من التنقل بشكل مريح من غرفة إلى أخرى، جنبًا إلى جنب مع خادمتها لمساعدتها في ارتدائها. فكلما كبرت تنورتها، سَمَت مكانتها.
في الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، طفق المزيد من نساء الطبقة المتوسطة في ارتداء «القرينول» عندما بدأ إنتاج التنانير ذات الأطواق القفصيّة بكميات وفيرة، وسرعان ما اكتسح «هَوَس القرينول Crinolinemania» عالم الموضة.
على الرغم من الانتقادات الموجهة من قبل مُصلِحي الملابس الذين رأوا أنها أداة أخرى لقمع حركة المرأة وحريتها، فإن التنورة ذات الأطواق الكبيرة كانت طريقة راقية للحفاظ على السلامة الاجتماعية للمرأة. فرضت تنورة القرينول على الخاطب المحتمَل (أو الأسوأ من ذلك، الشخص الغريب) الحفاظ على مسافة آمنة من جسد المرأة والابتعاد.
على الرغم من أن هذه التنانير ربما ساعدت عن غير قصد في التخفيف من مخاطر تفشي مرض الجدري والكوليرا في ذلك العصر، إلا أن تنانير القرينول يمكن أن تشكل خطرًا على الصحة: احترقت العديد من النساء حتى الموت بعد أن اشتعلت النيران في تنانيرهن. بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، أفسحت «القرينول» الطريق أمام «المِنفَجة Bustle»، التي أكدت على امتلاء التنورة من الجانب الخلفي فقط.
ومع ذلك فقد استمرت النساء في استخدام الموضة كسلاح ضد اهتمام الذكور غير المرغوب بهم. نظرًا لأن التنانير أمست أضيق في تسعينيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن القبعات الكبيرة (والأهم من ذلك دبابيس القبعات، والتي كانت عبارة عن إبر معدنية مدبّبة تستخدم لتثبيت القبعات) وفّرت للنساء الحماية من المتحرشين التي قدمتها تنورة القرينول ذات مرة.
فيما يتعلق بالحفاظ على الصحة، فإن نظرية الجراثيم والفهم الأفضل للنظافة الشخصية أديا إلى ترويج أقنعة وجه (تشبه إلى حد كبير تلك التي نستخدمها اليوم) خلال الإنفلونزا الإسبانية. وفيما استمرت حاجة النساء إلى الابتعاد عن المتودّدين المزعجين، فقد كانت القبعات تستخدم في تثبيت الأقنعة أكثر مما لإبعاد الغرباء.
اليوم، ليس من الواضح ما إذا كان الفيروس التاجي سيؤدي إلى موضات وإكسسوارات جديدة. ربما سنرى صعود أشكال مبتكرة من الملابس الخارجية الواقية، مثل «الدرع القابل للارتداء» الذي طوّرته إحدى الشركات الصينية.لكن في الوقت الحالي، يبدو أننا على الأرجح سنستمر في ارتداء البيجامات فقط.
 
* إيناف رابينوفيتش فوكس: أستاذة مساعدة زائرة في جامعة كيس ويسترن ريسرف الأميركية.
The Conversation