د. رسول محمد رسول
ما زال أديب كمال الدين الشاعر العراقي المقيم في أستراليا يكتب شعراً في رحلته الأدبية وارفة الظلال، ومنها ما كتبه تحت عنوان قصيدته (رحلة سريالية) التي فيها يبدو الشاعر في حكي للحظة المجيء بعد غياب طويل فلم يجد لا أولاده ولا بناته ولا أحفاده إنما وجد "قصيدته الأخيرة" التي لم تكتمل وهي تنتظره، فالقصيدة هي بانتظار الشاعر بوصفها لحظته الإبداعية نافرة الوجود بحيث تستبدل كل ممكنات الحياة المادية لصالح المعاني الشعرية ما يعني أن القصيدة هي الموروث الحقيقي وأنها الولد أو البنت أو الحفيد المبذول ولذلك يقول الشاعر:
"فسارعتُ إلى تقبيلها ما بين عينيها
فهبطتْ من عينيها الحالمتن
دمعة طفل يتيم".
وبذلك صارت القصيدة مؤنسة؛ صارت طفلاً يتيم الحال ليعود الشاعر ويقرأ لنا بيانه في العبور الجوهري في مشروعه الشعري هياماً:
"كثيراً ما أذكر أسماء البحار التي عبرتها؛ بحر الحرف، بحر النقطة، بحر الرعب، بحر اللعنة، بحر الطغاة، بحر الكلاب والثعالب والعناكب، بحر الكناغر، بحر الأجساد، بحر الضحك الأسود".
عن بحر حياته يستأنف ليقول:
"أنسى أن أذكرُ بحراً
محاه الجغرافيون من الخارطة
أظنه بحر حياتي".
الدور الكوني للشاعر
يمارس الشاعر دوره الكوني عندما يلف أمكنة العالم الذي نحن فيه فيودّع صوته/ قوله/ قصيدته/ شعره الذي اختار لذلك ملفوظا شعريا هو "نجمة"، وشأنه أنه مهوس بسر الحياة لكن سرائره تتغافل عن أن الحياة هي داءُ لا تشفيه النُّجوم فيقول:
"في كل بلد من بلدان العالم
أودعتُ نجمة من نجماتي
كنتُ مهوساً بسرِّ الحياة
ولم أعرف أن الحياة
داءُ لا تشفيه النُّجوم".
الشاعر يطوي حالات الغربة واليأس فيعود إلى نجمته الأولى؛ يعود إلى "النقطة" وممارسة السعد بأنطولوجيتها وأنسها حتى يُقبل وحدته:
"أنتظر بشوق أنْ أدخل نقطتي
لأصافح وحشتي
وأقبّل وحدتي".
يصل الشاعر إلى معنى الجنون في الحياة أو جنون الشاعر في وجوده الحياتي فيقول:
"الشعر جنون جميل
أو جنون مُطلق
أو جنون سريالي
أو جنون حروفي
أو جنون نقطوي..".
هذه معاني الجنون في تجربة القصيدة لدى الشاعر أديب كمال الدين في قصيدته التي تعيش "الجنون الأخير" بمعنى "الجنون السعيد".
مضمون ثلاثي
ثمَّ دوام للنقطة وللحرف عندما يشتغل الشاعر عليهما ليستعيد بنيته التركيبية على نحو رائق، فالجنون السعيد سيتحوّل إلى لحظات أخرى كما كتبها صاحب الرحلة السريالية قائلاً:
"حرفي احترق
قد يكون،
لكنّه اقترب حدّ الذهول
بسؤال إبراهيمي
ودمع يعقوبي
وجمال يوسفي
من الذي يقول للشيء كن فيكون؟".
الأشياء عندما تحترق لدى الشاعر لا تتحوَّل إلى رماد إنما إلى بوتقة أخرى تقترب حدّ الذهول قوامه السؤال المركّب الذي يتقوّم بثلاث لحظات مستوحاة من التركيبية القرآنية التي يعبر عنها في لغته الدينية سعى الشاعر لأن تكون بالسؤال الإبراهيمي والدمع اليعقوبي والجمال اليوسفي، وهي ثلاثية رائقة ركّبها الشاعر في نصّه الشعري كملاذٍ إبداعي؛ إذ يختلط الشعري بالمعرفي الديني في ظهوره القرآني ما يحسب للشاعر اشتراكه الإبداعي.