قلق الوجود.. قلق اللغة في {وحيدان أنا وظلي}

ثقافة 2020/12/01
...

 د. عمار إبراهيم الياسري
شهدت قصيدة النثر كشوفات بنيوية كبيرة في النسقين المفاهيمي والشكلي؛ وهذا مرده التجريب الذي تمور به الذات المبدعة؛ إذ لم تعد المفاهيم الشمولية والخطابات المتعالية والمرويات الكبرى هي البنية السائدة؛ بل أضحى اليومي والمهمل والمستلب والقابع على حواف التحقير هو البنية التي تحرك ديمومته، وأمست المحاكمات التاريخانية للأساطير والمحكيات الشعبية والموروثات اللاهوتية من تجلياته، أما على المستوى الشكلي فقد أعادت قصيدة النثر تشكيل البنية التركيبية للجملة بوساطة المتضادات والانزياحات والثنائيات والاقتصاد اللغوي من أجل بنية لغوية مفارقة صادمة كاسرة للحمولات القبلية للمتلقي.
 
شهدت مجموعة "وحيدان أنا وظلي" للشاعر نبيل نعمة مشاكسات مفاهيمية وشكلية في بنيتها اللغوية؛ فهي محاكمة بارعة قوضت الخطاب السلطوي الساعي إلى تعليب الذات الإنسانية والمتمظهر عبر الاغتراب الوجودي الذي نقشته الذات الشاعرة في مشغلها الشعري، فالسلطات القهرية المتجسدة عبر الهويات الفرعية شكلت بنية قاهرة سعى الشاعر لمقاضاتها ومحاكمتها عبر عزلته النصوصية، وقد تنوعت السلطات القهرية ما بين اللاهوتية والفلسفية والسيسيوثقافية والجيوسياسية شهدت معها الذات تشظياً وجودياً جعل من مكان الطفولة المألوف حسب (باشلار) مكاناً طارداً ضيقاً على الرغم من سعته؛ فالوحدة أعلنها الشاعر مع عنوان المجموعة الرئيس "وحيدان أنا وظلي" تماهت مع لوحة الغلاف التجريدية؛ فالجسد الأسود المنحني يشي بالعزلة والهموم التي ينحني لها الظهر على الرغم من الوهاد الأخضر الذي يحيط به؛ ولو تابعنا نصوص المجموعة نلحظ أن الشاعر قد هشّم عتباتها الداخلية في إحالة دلالية رافضة للعنونة المكانية ثم يعلنها مدوية في مهاداته الشعرية عبر نصه الأول في الصفحة السابعة حينما يقول "حسناً أيتها البداية، أنا أتنصل منك برفق"، ثم نلحظ في نصه الثاني وقوفه على الهاوية مفتشاً عن أشيائه الضائعة؛ الأشياء التي سلبتها السلطات القهرية منه لتجعله يعيش في وحدة وجودية قاحلة، ترى هل هذه العزلة كافية لأن تجعل الإنسان فاشلا؟، لماذا لم يستطع العيش مع المجموع؟، وسط هذه التساؤلات يحتفل الشاعر بفشله.
وقد شهد نصه الرابع تمظهر السلطة الجيوسياسية، إذ نقرأ في الصفحة العاشرة:
إنني منذورٌ لحربٍ كحصان
الحصانُ في الحرب لا يموتُ إثرَ نوبةٍ قلبية.
فالنزق السياسي الذي حول أرض الوطن إلى محرقة جعل الذات تشبه نفسها بالحصان المنذور في الحروب؛ فكما الحصان مغلوب على أمره الشاعر مغلوب على أمره، وهذا ما بينه حينما وصف ميتته التي تجتهد في رسمها الحروب، لذا تقوّضت أوصاله مع الأرض بفعل نزق الساسة.
أما السلطة اللاهوتية التي جعلت الذات الشاعرة مستلبة وجودياً فقد تمظهرت في نصوص عدة منها ما جاء في نصه الخامس والثلاثين:
كان الله معي؛ كلانا يعاني من الوحدةِ،
من الصوت الأعزل...
إن الوحدة الوجودية التي تعانيها الذات الشاعرة بسبب التشظيات المفاهيمية لماهية الرب عند من يطلقون على أنفسهم وكلاءه في الأرض، فبسبب القراءات الذاتية النفعية لمفهوم الرب أريقت الدماء البريئة مما جعل الذات الشاعرة تلجأ للوحدة قسراً؛ بل حتى الله (عز وجل) شاركها الوحدة حسب مخيالها، فهما بريئان من كل الخراب الذي حاق بالأرض في دلالة شمولية رافضة.  
ولم تكن السلطة السيسيوثقافية غائبة عن وحدة الشاعر؛ بل عاثت في وجوده قهراً واستلاباً؛ لذا كانت الوحدة مآلها الأخير، ولو تابعنا نصه الحادي عشر الذي يقول فيه:
أنا لاجئٌ خانهُ الوطنُ مراراً
حتى سقط في فخ القصيدةِ.
فالوطن هنا كناية عن منظومة سيسيولوجية عملت على تعليب الذات الشاعرة وتذويبها مع قطيعها إلا أن الذات تمردت على سلطة المؤسسة المجتمعية رافضة تهجينها؛ لذا كانت القصيدة ملاذها الرافض والوطن الأمن والمألوف.
في حين كانت التمثلات الفلسفية مائزة في المجموعة؛ ولو تابعنا نصه السابع عشر الذي يقول فيه:
الغرفة الواسعة ذات الجدران المطلية بالهدوء،
تشبه برميل صديقي ديوجين.
فالتناص الأسطوري مع (ديوجين) الفيلسوف اليوناني بدا واضحاً؛ فـالوحدة القاحلة التي عاشها (ديوجين) وسط برميل مزدرياً تقاليد المجتمع ومؤمنا بالحكمة المستقلة عن المدنية التي شوهت الحياة هي ذاتها التي سعى الشاعر للوصول لها بعد أن ازدرى الحياة المسورة بدخان الحروب والفلسفة المتعالية التي تخرج من فلاسفة البلاطات وأروقة الحكومات.
إن قلق الوجود ترك تمثلاته على لغة المجموعة التي بدت قلقة منزاحة عن معيارها التداولي؛ فالذات الشاعرة سعت إلى تشكيل بنية لغوية تعاني ذات العزلة التي تعيش بها؛ ولو تابعنا نصه الأول الذي يكاشفنا فيه بانزياح لغوي مائز حينما يقول:
كمن يسحبُ ظلَّ وردةٍ من حديقةٍ نائية،
تاركاً في الأخضرِ هذا الفراغ.
فالظل على وفق المتعارف البصري لا ينفك عن أصله؛ لكن الشاعر عمد إلى خلخلة هذا المفهوم من خلال إزاحة الظل عن الوردة؛ وهذه الإزاحة التي خلخلت السائد التداولي في بنية الجملة لم تشتغل على التشكيل البلاغي فحسب؛ بل بينت قلق التركيب اللغوي؛ فالاستلزام الحواري في الطروحات التداولية حسب (غرايس) يقوم على نسق يحكم المتحاورين يسمى ـمبدأ التعاون-، بمعنى أن يتعاون المرسل والمستقبل على تحقيق الهدف الذي تتوخاه اللغة، وهذا الهدف قد يتحدد قبل التشكيل اللغوي أو أثنائه؛ لكن الذات الشاعرة هشّمت مبدأ التعاون الذي يطرحه مفهوم الاستلزام الحواري في إحالة نسقية هشمت الأقانيم الثلاثة الذات المعلبة والسائد الشعري والمتداول اللغوي.
نبيل نعمة شاعر يأبى سلطوية الوجود وسلطوية النص، لذا ابتكر خطابه المختلف في مجموعة "وحيدان أنا وظلي"، فهو خطاب حجاجي يعلن رفضه الوجودي عبر عزلته الآسرة.