مائلات من ثقل دمعة.. غرفة الكراكيب

ثقافة 2020/12/04
...

  حميد حسن جعفر
 
ابتهال بليبل ليست بحاجة إلى قارئ قنوع بما يقرأ، بل إنها الباحثة عبر ما تكتب عن القارئ الذي ليس من السهل الإمساك به.. القارئ الحذر الذي يحسن التخلص من قبضة القصيدة حين تكون ضمن حالة احتيال على المتلقي، إنها لا تبحث عن القارئ الكسول بل تحاول أن تجر القارئ/ السنجاب إلى حقول يمكن أن تشكل خزينًا معرفيا وغذائيًا لفصول الشتاءات التي من الممكن أن تتعدد.
نسوة الشاعرة كائنات تتشكل من خلال تعدد الأطياف. لا علامات مميزة سوى القوة والإصرار رغم الضعف والمقاومة والتراجع والمعرفة الميدانية رغم الأمية، نسوة قريبات كما الأسرة، وأخريات غريبات كمصابات بعوز أو مرض، أو قهر.. نسوة يقتربن من الشاعرة ضمن ظروف العمل أو الاضطهاد والعنف الأسري، لذلك لن يجد القارئ أمامه شريحة نسوية بعينها، نسوة لا يجمعهن اصطفاف بمواجهة خصم واحد، كالذكر/ الرجل، الأب، الأخ، الزوج، ولا مصدر اضطهاد كالفقر وغياب العائلة والأمراض النفسية، البعض منهن ما زال يقاوم ويرفض ويقترح حلولًا، وأخريات استسلمن لأمراض مستعصية ولأحكام قانونية مجتمعية وأنظمة متوارثة.
 قد لا تجد القصيدة التي تكتبها بليبل حلولا لإشكالات الحياة، ولا توفر إجابات لأسئلة تشتغل على ما يطفو على سطح المجتمع، إلا إنها تحاول أن تظل طويلًا في الذاكرة، تحفر في حجارة النسيان، قد تخسر جولة أو حياة ربما، إلا إنها تطمح أن تكون حيةً لا تترك فراغًا وراءها.
بليبل، لا تشكل منطقة عدائية للماضي أو لما يدور وسط بيوت الأسر الأبوية والزوجية وما ينتمي للتشكيلات البشرية، غير حاملة لدعوات الشطب والإلغاء، بل يشغلها شاغل صناعة حالة من الاهتمام بالمستقبل، إنها تداري وتسقي بتلات الزمان والمكان والعلاقات الإنسانية عبر هكذا اهتمامات يتصاعد عشب الجمال وحدائق المحبة، وهكذا تتراجع أدوار الزمن اللا جميل، فهي/ الشاعرة لا تلتفت مستذكرة الماضي بغضب وعدم رضا، بل تودعه بمودة رغم خشونة تفاصيله، حتى مفروزات الألم من بكاء ونحيب ودموع تحاول نسوة الشاعرة ألا تعلن عنها، ألا تطلق العنان للدمعة أو لرحيق العزلة كدلالة على الهزيمة، بل إن كبرياء المرأة لدى الشاعرة يبدأ من خلال دمعةٍ تأبى مغادرة محجر العين، ألا يتجاوز النحيب الهواء الخارج من الرئتين، هنا تتخلى الحنجرة عن التصريح بشيء من الضعف أو الإحساس بالخواء. الشاعرة ذاتها تعمل على عدم الإعلان عن تراجع يحدث أو تودد يفشل أو تقارب لا تفلح في اقامته بعلاقات نظيفة. 
الكتابة في -مائلات من ثقل دمعة- غير معنية بشرح أو توضيح موقف المرأة من الحياة لكسب رضا الرجل/ الذكر، بل نجدها على يد الشاعرة معنيةً بكسرِ قيود يحاول الرجل/ الذكر عبرها تحويل المرأة إلى دمية، كائن تابع. 
إلى جانب الشاعرة هناك حشد من الشواعر والكاتبات اللواتي يتبنين الكثير من التصورات الداعية إلى وجوب النظر إلى المرأة ككائن لا يختلف كثيراً عن الرجل، بل أن كثيرات يمثلن جوانباً عديدةً من التفوق، وإن الحياة ذاتها ليست بحاجة للمرأة الخاملة الكسولة، بل للأكثر نضوجاً وحضورا.
المرأة بالنسبة لبليبل لم تكن نتيجة للفوضى والأخطاء بقدر ما هي منتجة لصنوف معارف وثقافات تسهم بشكل بيّنٍ بمواجهة قانون الغابة الذي يحولها إلى مصنع لإنتاج المتعة والأطفال ولنوعٍ من الرق، (القانون المجتمعي القائل: إن المرأة لا يمكن أن تغادر البيت إلا من خلال حالين فقط، الأولى خروجها من بيت الأب إلى بيت الزوج، والثانية من بيت الزوجية إلى المقبرة).
 كبرياء الأنثى لا تسمح لها أكثر من الاحتفاء بدمعة تمثل مصدر السمو والجمال، لذلك تحاول امرأة الشاعرة ألا تتجاوز دمعتها محجر العين، (مرخوص بس كت الدمع، شرط الدمع حد الجفن)، هذه امرأة الشاعر مظفر النواب، والتي هي ذاتها امرأة الشاعرة ابتهال بليبل، منزلة المرأة لا تجيز لها العويل كإعلان عن الحزن والخيبات والاحساس بالضيم والظلم والانكسارات، لذلك نرى الشاعرة تحاول تجاوز الإعلان عما يضعف دور المرأة ومواقفها بمواجهة الخسائر. 
قوة المرأة في عدم الإعلان عن ضعف ما زال يرافق جانبًا من مسيرتها، وإن كان يمثل أكثر من منطقة جمالية، إلا إنها لن تتخلى عن وظيفتها الأساسية، حين تكون علامة من علامات الانتصار/ الإحساس بالفرح والانتشاء بمعارف تعلن نفسها بوجودها بمعية الشاعرة، التي استطاعت بليبل أن تعلن انتصارها للنص الذي لا يكتبه الشاعر/ الرجل/ الذكر، بل يحمل علامته الدالة/ الشعرية الانثوية، مهما حاول البعض طمسها.
 الكثير من نصوص المجموعة يجدها القارئ كما لو كانت بليبل فنانة تشكيلية تلجأ إلى مذهب التجريد في اللغة، فيما يتعلق بأقوالها وأفعالها الشعرية، حيث تتشكل الإشارات لأحداث مطمورة، ووقائع مسكوت عنها، حيث يتحول المس الفردي إلى جانب جمعي ليتشكل الغياب من خلال الحضور الجزئي، لذلك سيجد المتلقي إن نصوصًا بهذه التشكيلات لن تتوقف عن انتاج التصورات، إذ انها تفتح الكثير من الأفكار المزاحة سابقًا لتسجل حضورها الثقيل الوقع، موفرة للنص آفاقًا معرفية وفرت لها خزائن القارئ التي قد تجيء غير متوائمة مع رؤية الشاعرة، ومن ثم تتسع جماليات المتلقي المتعددة، وآلتي قد لا تحد من انطلاقاتها معارف معينة.
لا ثوابت في القراءات التي ستتعدد تحت تأثيرات تعدد المصادر الأولية للقراءة، والتي ينتجها قراء مختلفون، لتتشكل بالتالي والاستجابة والرفض، مواقف قد تقف الى جانب الشاعرة، الا أنها تظل منطقة غير مغلقة، ومعلنة لقبول الآراء الأخرى.
ما الذي كانت تبغيه بليبل من نسوتها؟ والكثيرات منهن قد تنامى لديهن الجهل والأمية حتى تحولا إلى عباءة توفر لهن المجهولية، هل كانت القصيدة تسعى لدهشة القارئة؟ 
مهمة الكتابة عامةً والقصيدة خاصة هي استفزاز وتثوير وحلحلة سكونية الوجود النسوي المجهول، رغم وجود كائناته في كل مكان، وصراعها مع ضرائر وزوجات الأبناء والحمل والولادة والتطعيم المختلف والتشوهات الولادية والامراض والمتحولات والمتحولين. 
نسوة بليبل كائنات ممتلئات بالضيم والقهر وسرطان الثدي والحروب ومحاولات الهروب من بيت زوج خامل وأب ظالم وأخ عدواني وجسد يباع وذكورة مهمتها افتراس جسد المرأة.
 كل هذا وليتذكر القارئ النسوةَ الأخريات الباحثات عن عمليات التجميل والنفخ و-الميك آب- والقمصان.. نسوة بليبل ما زلن يحملن -صخرة سيزيف- وما زلن يحتفين بقدراتهن على مقاومة السلطات التي تسعى لإشاعة القناعات والقوانين والمجتمع.