لم يحظ الروائي إدورد الخراط (1926 - 2015) الذي تحلُّ ذكرى وفاته الخامسة في كانون الاول هذا، بالأهمية التي حظي بها نجيب محفوظ، مع أنه قال جملته الشهيرة بمناسبة حصول الأخير على جائزة نوبل: (الوحيدان اللذان يستحقان نوبل أدونيس وانا) حيث عُرف عنه انه يعيب على محفوظ واقعيته، فهو الذي رفض واقعية الاخير تلك، وذهب الى تجديد الكتابة، عبر لغة مختلفة، وتضمينها عوالم سردية أصبحت خاصته، والتي عرف بها في أعمال قصصية، وروائية، وشعرية، وترجمات عن لغات أخرى، جعلته واحداً من اهم الكتاب العرب.
لا يمكن لقارئ صاحب (ساعات الكبرياء وراما والتنين وبنات اسكندرية وحجارة بوبيللو وترابها زعفران والزمن الآخر) وغيرها أنْ يُعيد رويّ ما قرأ، وترتيب الاحداث كما في كل روايات محفوظ، لكنه سيظل مأخوذاً ومسحوراً بما يحدث داخل المتن السردي، الذي تطغى عليه الروح الانسانية العالية، والمعالجة الامينة لأدق العلائق والتفاصيل في حياة الانسان هناك، في مدينة مثل (الإسكندرية) متنوعة الاعراق، والمتقلبة في الدهور، والمختلفة الاهواء والامزجة، من خلال رؤيا انسانية متقدمة، تحاول معانقة الحقيقة الكلية، وتجاوز العالم المليء بالضغائن والرداءة والواحدية، وكان حوار راما وميخائيل في روايته الاشهر (راما والتنين) هو أجمل حوار، بين رجل وامرأة، قراناه في السرد العربي، اختلطت فيه عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية، يقع قارئ الخراط على كاتب متقدم في وعي الكتابة، منذ بواكير اعماله، ولعل واحدة من أسرار صنعته هي اللغة المختلفة، التي اعتمدها في اعماله كلها، لغة حيّة، حسيّة، صادقة، عميقة الاثر في النفس الانسانية، قريبة جداً من روح الانسان المراد إعادة انتاجه، تتنقل بين الشعر وما يجاوره، وبين الاثر وما اختفى، وظل منه، بين ما هو مشترك وخاص جداً، وقد يفقد قارئه متابعة الحدث الوقائعي، الذي اختلف مع محفوظ في تقديمه، لكنه يُسحر باللغة، التي ذهبت بكليتها الى موائمة الروح، وتلمس جراحها، جامعة بين الفصيح والعامي، دون ان يشعر أحد بذلك، فقد يقول(قارئه) مع نفسه: أهذه المفردة فصيحة أم لا؟ اما كاميرا عينه الكاتبة هذه فهي الاذكى طرّاً، ذلك لأنه أراد أن يبني المدينة على وفق ما كانت عليه عبر الزمن، ويعيد تركيب العلاقات الانسانية كما يتصورها، وكما يريد لها أن تظل. وفي واحدة من عبقريات الكتابة عند إدورد الخراط أن كاتب الحوار والسيناريست، الذي يريد نقل مادة الخراط الى السينما لن يحتاج لكثير جهد، فقد نقل لنا مدينة الاسكندرية بأدق تفاصيل حياة الانسان فيها، ونقّب في إرثها الهليني واليوناني والاسلامي وتحولاتها الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. وبعد فهو شاعر الرواية العربية.