حياة سابقة

ثقافة 2020/12/05
...

سرور العلي 
 
شبحها المتهالك يتجول بين الأسِرَة الحديدية، خيل إليها بأنها تسير بين قبور 
قديمة، قبور منسية منذ زمن الموت الأول للخليقة، تحس بأنها قد ماتت بالفعل منذ أن زجوا بها عنوةٍ في هذا الدار، وجوه شاحبة، تبتلع مرارة الفراق بحسرة، والصمت الوحيد من يقطع التذاكر إلى هنا، وحين تغلبها الدموع، تهرب لتتسلى بوجوه من تحب، 
تركض في شوارع ذاكرتها، تلملم اشلاءهم المتناثرة في غربة فاجرة، تصنع منهم أسرة من جديد، ها هو عيد ميلاد طفلها الأول، أفراد الأسرة مجتمعون حول كعكة تلتف حولها شمعدانات مضيئة، تعكس اشعتها على الوجوه المرحة، ويفاجئها صوت التصفيق ويدفعها لمزيد من البكاء في وحشة مرعبة تنمو حول عنقها، ترتجف أصابعها النحيلة وهي تخرج صورة زوجها من تحت وسادتها، تحدق إليه كأنها تراه لأول مرة، تتأمل شبابه الفاتن بابتسامة ترقص على شفتيها كرقص غجرية دون توقف، 
ثم تتذكر بأنه نائم الآن في قبرٍ بارد، ويعود الألم ينهشها، تقترب من النافذة، تزيح الستائر وتتأمل الشمس الهاربة خلف غيوم تقاوم الخروج كل يوم إلى سماء ملت روتينها، وهي الأخرى ملت موتها الصدأ، ما زالت تتذكر لطالما لا تمتلك سوى الذكرى، تختلس 
النظر من النافذة المطلة على الزقاق، 
تنتظر مجيئه، تتأمل طوله الفارع بخجل 
كأنها عروس زفت لحبيبها توا، وادمنت انتظاره وعرف هو سر خجلها، ومن يومها تعلق عمرها به، وعرفت من صديقة لها تكبرها بثلاثة اعوام، أن الحب غزا قلبها من دون رحمة، وانتظرته طويلا، واختفى في جبهة حرب لم ينته رصاصها، صار خياله لا يفارقها كأنه 
يتوسل أن تزيد من جرعة الانتظار، لأنه سيعود يوما ما بقلبه الذي أحبها، ولكن بساق واحدة والأخرى بقيت هناك 
كدلالة على نصره، وتزوجا وعاشا ثلاثين عاما من الحب، أحست يوم وفاته بأنها غادرت الحياة قبله، ذبلت أزهار الحديقة التي تشاركا العناية بها ويوما بعد يوم تحولت تلك الحديقة لصحراء في عينيها، 
بيد أن المزروعات لم تستسلم بشكل 
كامل لموتها، نفضت عنها غبار الذكريات واستلقت على سريرها، وخيل اليها أن أحد أبنائها سيدفعه الضمير بغتة ويأتي ليخرجها من كآبة دار المسنين.