رمزيَّة الجسد الحار والمعطل

ثقافة 2020/12/05
...

ناجح المعموري
 
القصة قصيرة، شعرية السرد فيها حاضرة، تتمتع بتنوعات الرمز. والدلالة متحركة فيها، لان القاص محمد كامل عارف قادر على تحريك السرد بهدوء تام، تمثل هذه التجربة محاولة جديدة، لأنها غادرت ما كان مألوفاً بالسرد العراقي، حيث العناية بالبناء التقليدي، الخاضع لسيرورة متوترة عبر النمو السببي، لذا اعتقد بأن هذه القصة ــ الطير الاسود الصغير ــ تمثل انموذجاً سردياً جديداً، حاز على ما توفرت عليه القصة العراقية الحديثة في التجربة الستينية، التي غادرت النمط الذي كان سائداً.
واغتنت بالحضور السردي والصورة ولعل الاهتمام بالصورة تجربة حيّة وفاعلة وبوقت مبكر، وقبل ان تتحول الصورة الى وحدة فاعلة في البناء القصصي، أستطيع الاشارة الى تجربة اخرى متميزة، انفرد بها القاص محمد خضير الذي كانت الصورة مكوناً مركزياً في قصصه، مثلما شكلت بعضاً حيوياً من ثقافته، لكن القاص محمد كامل عارف هيمن عليه الحضور الفوتوغرافي ووظف شعريته، باعتباره عنصراً بنائياً في قصته مما اضفت على السرد شعرية تجاوزت المعروف السائد في السرد الستيني. هذا ما حازت عليه القصة في مرحلة الستينات، ليس بالعراق فقط وانما في الوطن العربي، ولعل التجربة القصصية في مصر وحصراً جيل جاليري امثال محمد البساطي/ جمال الغيطاني/ يوسف القعيد/ ابراهيم اصلان.. الخ. “ الطير الاسود الصغير” أول رمز يواجه المتلقي يتكون بوصفه عتبة اولى، رمزية اللون تضاد دلالي ومعاكسة لما هو سائد في الحياة، حيث مغادرة الاشياء واقتراب الربيع، والحضور الثنائي لفصلين اختزال زمن وتاريخي. ووجودهما معاً تعبير عن نوع من الجدل والصراع بين فصلين، هما الشتاء وصعود الربيع بهدوء، فالطير الاسود الصغير حاز لونه من اقترابه المستمر من مداخن التدفئة، او هو من نوع السنونو، لكن وجود هذا الرمز في قصة قصيرة واتخذ وجوده المبكر جداً عبر عنونة القصة، لفت انتباه المتلقي، وعلى الرغم من وجوده لاحقاً في مشهد للسباحة، لكني اعتقد بأن دلالة الطير الاسود تومئ للسائد من العلاقة بين العراقي والشابة، واللون تعبير شعري على سيادة الحزن وارتباك العلاقة بين الاثنين.
المثير في هذه القصة ان الجدل بين تاريخين يمثل كل منهما فصلاً جوهرياً، في بلدان اوروبا مثلما تتبلور عبرهما شعرية السرد، والتركيز على الخصوبة بالحياة وحتمية الانبعاث والتجدد، لكن هذا الجدل لم يتضح على العلاقة القائمة بين الشابين، وهذا ستكشف عنه التفاصيل الهادئة، لسيرورة السرد، وتنامي شعريته من خلال العناية العالية، بالرمز الكاشف عن الوحدة التي عاشتها الشابة، وضغط العزلة على الرغم من وجودهما في مكان واحد، لذا اضطرت للاحتجاج على الشاب الذي اتخذ قرار القطيعة، فذهبت الفتاة لممارسة ما يعوضها عن ثنائية العلاقة مع الشاب، عبر ما تنطوي عليه التفاحة باعتبارها رمزاً اولياً، على ما حصل في اسطورة الفردوس، لكنه وضمن الوحدات الهادئة، وتداخلات الحوار بين العراقي والفتاة كاشف عن مزاولة استنمائية تعويضية عن الاتصال الادخالي الذي لم يتحقق لها. ويبدو لي بأن زمن التبرعم وابتداء الانبعاث فاعل جوهري، بما ينطوي عليه من تعدد للدلالة، قد حفز الجسد الانثوي، لان الطبيعة تمثيل رمزي للجسد، وبالضرورة ان تحوز الانثى على ما هي بحاجة اليه من مزاولة حسية، تمنح الجسد فرصة حيازة لحظة الانبعاث، حتى وان كان رمزياً.
ركزت الالتماعات السردية في هذه القصة على العلاقة الثنائية بين الشاب والفتاة ودورة الفصول المعروفة، وما يتبدّى عنها من تغيرات جوهرية في الحياة والطبيعة. ودائماً ما تكون تلك التبديات ذات تمثيل لها على حياة المرأة.
لهذا السبب تمركز استهلال القصة على الانبعاث، او ما أطلق عليه مارسيا الياد ومن قبله نيتشه بالعود الابدي (تخضر بها الاشجار، ما ان يرفع المرء رأسه، حتى يجد الاشجار قد ازدحمت بالبراعم، وبدأت تورق.. ويحل فصل جديد اخر.. وتتوالى الفصول.. ڤينا.. براغ.. برلين: الاشجار تبرعم وتورق وتيبس، لتعود تورق من جديد).
هذا المشهد الصوري المشحون ببلاغة الشعرية التي لم يتمظهر لها تمثيل من خلال العلاقة بين العراقي والفتاة الاجنبية، ذاك الشباب الذي لم يستجب لها، ويغني لها اغنية عن بغداد بعدما انتبه لها هي تدندن قالت: اوه.. انني حمقاء جداً.. قلت ان كنت تحبني.. اوه كارول. واخذ السرير يطقطق وسألته الفتاة: أهي سخيفة؟
لم يجبها، كان قد رأى طيراً اسود صغيراً يرنق فوق سطح البيت المقابل، طقطق السرير مرة اخرى، واقتربت منه لفت ذراعها حول كتفه. وشم رائحة جسدها الحارة.. بف!! لم لا تذهب وتغتسل؟ اخذ الطير الاسود الصغير يرفرف محوماً حول مدخنة البيت المقابل. قالت الفتاة: 
ــ ستغني انت؟
ــ ماذا؟
ــ ستغني انت اغنية عن بغداد؟
قال العراقي: لا اعرف 
كان الطير الاسود قد غادر المدخنة 
القطيعة ضاغطة، وتبدياتها واضحة جداً، لان الشاب العراقي استشعر ما هي عليه، لذا فكرت بالاغتسال، بالإضافة الى صمته عن المشاركة بالغناء بما يعرفه عن بغداد. رفض ذلك وقد كذب عليها، وهو يعرف اغان عن بغداد.
في اللحظة التي أدركت فيها الفتاة عمق العزلة بينهما، استعانت بذاكرته الثقافية العميقة، لعلها تحركت فيه طاقة جسده وتخفزه للاتصال بها.
اخذت الفتاة تزعق وراء ظهره. التفت اليها: 
ــ ماذا؟
ــ انني اسالك، هل هذه الصورة على الحائط هي الثور المجنح. 
ــ اجل انه الثور المجنح.
ــ في بلاد ما بين النهرين ولدت اولى الحضارات في العالم، فكر العراقي، بانها لا بد قد قرأت ذلك في المدرسة.
قالت الفتاة: ــ وفي بغداد انشئت في القرن الحادي عشر اولى الجامعات.
ــ سألها: اين قرأت ذلك؟ اقتربت منه، واتكأت على النافذة بجانبه، انتبه الى انها قد ارتدت ثيابها وغيرت لون الاحمر على شفتيها.
لم تثره الاسئلة حول هويته وعناصرها الثقافية والاصول الحضارية وتأكدت القطيعة بينهما، ولم يثره مشهدها عارية، فاضطرت ارتداء ملابسها وغيرت لون الاحمر على شفتيها. 
المثير في هذه القصة الاقفال الشعري، الذي حسم الاشكالات بين الاثنين، بعد ان اقنعت بانه غير مستعد لفعل الاتصال، وبعثت له برسالة ذات دلالة عميقة وبلاغة شفافة، عندما تناولت تفاحة وابتدأت تقضم بها، استعادت الرمز الفردوسي ووظفته معكوساً، وزاولت الرغبة، مكتفية بما توفره هي بجسدها الحار والمتوتر/ محمد كامل عارف/ الطير الاسود الصغير/ مجلة الآداب/ بيروت/ العدد/1964
حاولت الفتاة بعث شفرة لاستحضار قصة العشق القديم واستدعاء اغنية تطوي الزمن الماضي، لأن حاضرها لم يكن مثلما هي تريد، عبر علاقة مع الشاب العراقي، والفشل الواضح عطل رغبتها بمعاودة التشارك بالأفكار والمفاهيم المشتركة، لكن ذلك واجه تعطلا كاملا للثقافي المشترك حول حوارات التشارك الجسدي، وفشلت رغبتها بالاستماع لأغنية خاصة ببغداد.