تترجم الرواية الواقع بأسلوب يختلف غالبا من كاتب إلى آخر تبعا لرؤيته العميقة في قراءة مجتمعه او المجتمعات الأخرى بتعبير فني يميل إلى تكوين علاقات مع شخصيات، هي في الواقع من صنع المؤلف، الذي يسعى الى إضفاء مثالية على بطل أو على الأبطال هم في واقع ينتمي إلى حيوات قرأها بفكر متخيل ومحسوس، من حيث قوة الحياة الاجتماعية ونسيجها القوي أو الهش، محاولا فك الرموز، التي تستعصي واقعيا على الإنسان العادي، وبوصف اجتماعي هو تصوير مثالي غالبا او رومانسي شديد التأثر بالمفهوم الاجتماعي لبيئة المؤلف، كما في أعمال بلزاك وهو تحليل اجتماعي مغمس بالحكمة او التحليل الاجتماعي المرشد للقارئ، وكما في أغلب الروايات الحديثة مثل روايات توني موريسون، فماذا عن روايات بروست، جويس، فيرجينيا وولف، ألفريد دوبلين، فولكنر او روايات رشيد الضعيف والارق الذاتي في تكوين الهوية الاجتماعية اثناء الحرب الاهلية وما بعدها، واظهار خيبة الامل لجيل ينتمي إليه، فهل التغيير والتقدم الاجتماعي يحتاج لفن روائي مصقل بالأهداف الحديثة؟ أم أننا في ظل الكوارث الاجتماعية فقدنا البوصلة الروائية الحديثة؟
الفساد والفقر وقمع الحريات في روايات حديثة كتبها نجيب محفوظ بأريحية عن المجتمع، الذي بدأ الانفتاح، وبحميمية جعلته أكثر ارتباطا مع الاحياء الشعبية والفقيرة، من دون أن يتغيب عن السياسة في عصره او حتى عن الدين، وكتب احسان عبدالقدوس عن المرأة في المجتمعات العربية بتحرر مهيب بعيداً عن الخيال، وضمن جداريات مكتوبة ومتحركة، ما زالت تمثل الفترة الاجتماعية والسياسية آنذاك، فماذا عن جمال الغيطاني او محمد السلماوي وغيرهم من الكتاب الذين استطاعوا خلق صورة اجتماعية عن البنية الحياتية في فترة عربية مهمة بعيدا عن الخيانة الروائية ان صح التعبير؟ خاصة من حيث الرؤية الأوسع والتي تشمل الفترات السياسية التي تغطيها الروايات الحديثة، فماذا عن روايات ما بعد الحداثة؟ وماذا عن فقدان البوصلة الروائية حاليا لرؤية معضلات الانهيارات الاقتصادية، وتأثيرات الوباء والحجر الصحي على الادب بشكل عام؟ وهل استطاع الادب الروائي العربي تقديم الحقائق الاجتماعية، بعيداً عن التشوهات السياسية وغيرها كما في روايات خالد خليفة؟
ربما في البحث عن البوصلة الروائية الحديثة، التي بدأت مع نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس وحتى رشيد الضعيف في جزئية ما من الذاتية التي تبحث عن الأنا في ظل التوترات الاجتماعية، والتغيرات المفصلية في الحياة، كان لا بد من الدخول الى روايات الربيع العربي والثورات، وما جسدته من انتقادات لأنظمة ثورية ولأحزاب، ولموازين القوى في دول اطاحت بالرؤساء وتذبذب العيش فيها، ودخلت في متاهات التشدد الاسلامي والدواعش، من دون تقديم أي رؤية عميقة للأحداث او حتى زرع التساؤلات عن المستقبل، وما هو متوقع فكريا من أدب روائي استطاع في الماضي حث القارئ على التحليل الاجتماعي من جميع جوانبه، وعلى فهم المراحل التاريخية للبيئات الاجتماعية كافة مع الحث
على الإنسانية، التي تقود العالم إلى الانفتاح والتآخي بعيدا عن التشدد الروائي، الذي حصد الكثير من الروايات عن داعش واحداث سوريا وليبيا ومصر، وصولا إلى روايات اصابتنا بالتراجع والتقهقر الروائي العربي، لأنها تمسكت بنقطة واحدة وهي استبداد بعض الانظمة، بعيداً عن امكانية رؤية الجوانب الايجابية فيها كما فعل بلزاك في انتقاداته الاجتماعية المتوازنة بتحليلات افتقدناها حاليا، وان ضمن في ما يسمى ما بعد الحداثة او الاصح تطهير الذاكرة العربية من خلال الادب الروائي الذي يحقق انتفاضة تعيد لنا البوصلة الروائية الحقيقة وقوتها في الدخول الى التاريخ المرصع بالأسماء الخالدة.