واحد من أندر أبيات الشعر العربي هو ما قاله أبو السمط مروان بن أبي حفصة في معرض مدحه شراحيل بن معن بن زائدة، حيث يقول:
وأرخصَ بالعدلِ السلاحَ بأرضنا
فما يبلغُ السيفُ المهندُ درهماً.
إنه بيتٌ مكتفٍ بذاته، من حيث دلالته وبنائه ومن حيث قدرة كثافته التعبيرية على بلوغ معناه الشعري برشاقة وانبساط واضحين، وهو بعد ذلك مما يمكن عدّه من الأبيات التي يمكن أن تقوم مقام قصيدة بكاملها، وهذا ما سماه الناقد الليبي خليفة محمد التليسي وبعده أدونيس بقصيدة البيت الواحد.
ولكن هذه امتيازات ليست بالنادرة في معظم القصائد الفريدة في تاريخ الشعر العربي، بل إن من متطلبات بناء البيت الشعري، في أرفع حالاته، قابليته على اكتمال المعنى فيه وعدم تدويره لبيت أو أبيات تالية، وهذا لا يحول دون أن تترابط أبيات متتالية في قصيدة وتتواصل مع بعضها إنما بتنمية المعنى وتطويره بمعان شعرية تالية تعزز غرض القصيدة وأهداف الشاعر في التعبير عن حال ما بأكثر من معنى شعري.
ندرة هذا البيت وامتيازه يعبّر عنهما معناه، وقد يكون هذا معنىً غير مسبوق في الشعر العربي، إنه شعر بطولة وفروسية، وهو شعر غالباً ما ينصرف المديح فيه إلى إعلاء قيمة القوة، وبضمنها السلاح، وإلى تزيين القدرة على الدحر والبطش.
لا قيمة للسلاح بموجب هذا البيت حتى بات رخيصاً، فما يبلغُ السيفُ المهندُ درهماً، حيث لا حاجة إليه بمقتضى العدل، وحيث العدل قرين السلام والاطمئنان والثقة بالحياة واحترامها.
إن شاعرا مثل أبي الطيب يفضّل تقديم كل صفات الشجاعة في وصفه لذاته قبل أن يصرّح بدلالة قيمته الشعرية التي تأخذ الترتيب الأخير في بيته المعروف:
الليلُ والخيل والبيداء تعرفني
والسيفُ والرمح والقرطاس والقلم.
وقد يتبرّر هذا لأبي الطيب ما دام هو القائل: أنام ملء جفوني عن شواردها. إنه نوم الواثق من فرادته الشعرية بحيث لا ضير في أن يأتي بها في الأخير وحتى أن يهمل الإشارة إليها في بيت منفعل كهذا البيت وفي الحادثة التي جاء بسياقها.
في كتابه (نقد الشعر) ينتبه قدامة بن جعفر إلى قيمة بيت أبي السمط ولكن بحدود قدرة البيت على الصياغة البلاغية، فيقول إن الشاعر أومأ فيه: «إيماءً موجزاً ظريفاً، أتى على كثير من المدح باختصار وإشارة بديعة». وكان قدامة بصدد التفصيل في مزية الاختصار في التعبير الشعري.
ففي ذلك الكتاب ينشغل قدامة بشكل أساس بـ (فنية) التعبير الشعري، غير مكترث كثيراً بالفحوى الأخلاقية الناجمة عن عمل الشعر. فهو حين يشير إلى إحدى المدائح الشهيرة لزهير بن أبي سلمى، ويبدأ بمعنى البيت:
أخي ثقةٍ لا تُهلكُ الخمرُ مالَه.. ولكنَّه قد يُهلك المالَ نائلُهْ
فإنه يقول:» وصفه في هذا البيت بالعفة لقلة إمعانه في اللذات، وأنه لا ينفد ماله فيها، وبالسخاء لإهلاكه ماله في النوال وانحرافه إلى ذلك عن اللذات، وذلك هو العدل». ثم يمرّ على بيت آخر:
تراه إذا ما جئته مُتهلِّلاً... كأَنَّك مُعطيهِ الذي أنت سائلُهْ
ليقول: «فزاد في وصف السخاء منه بأن جعله يهش له، ولا يلحقه مضض، ولا تكره لفعله».
ويتناول بعد ذلك بيتاً ثالثاً من القصيدة:
فمَن مثلُ حِصْنٍ في الحروبِ ومثْله .. لإنكار ضَيمٍ أو لخصمٍ يُجادلُهْ
ليقول: «وأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل».
في هذا البيت الأخير يكمل زهير بن أبي سلمى الخصال الأربع اللازمة لتبرير المديح، ومعه يؤكد قدامة بن جعفر تلازم العدل والسخاء
والعقل والشجاعة. فيستخلص قدامة من خلال الشعر أن «من أقسام الشجاعة؛ الحماية والدفاع، والأخذ بالثأر، والنكاية في العدو، والمهابة، وقتل الأقران، والسير في المهامه الموحشة والقفار، وما أشبه ذلك». وهذا داعي وقوفنا عند شرح قدامة لقصيدة زهير، إذ لا تكتمل مزايا المديح من دون المرور بالشجاعة ومعها القوة والقتل والتنكيل.
لكن بيت مروان بن أبي حفصة يذهب مذهباً آخر يكون فيه العدل قرينَ السلام، وبهذا يكون العدل هو الشجاعة بمعناها الإنساني، هو القوة اللازمة لترسيخ السلام وحسن التعايش ما بين البشر، وبهذا فإن البيت ينأى بالمعنى الشعري عن قاموس الحرب ومعداتها: وأرخصَ بالعدلِ السلاحَ بأرضنا.
دقة الشاعر في تكثيف معناه تضارع هذا الانبساط الذي يتجسد به المعنى، إنهما كثافة بلا توتر وانبساط بلا انحلال. وهذا بخلاف مأزق بيت أبي تمام:
ما زال يهذي بالمكارم والعلا
حتى ظننّا أنه محمومُ.
هذا بيت شعري ملتبس. فمن غير الواضح هنا ما إذا كان الشاعر يريد الهجاء أم المديح، واقع القصيدة أنها كتبت بقصد المديح، وكان أبو تمام يريد فعلا المديح، لكنه جاء بمديح استحال بهذه (العجالة) إلى تعبير فيه من الخفة ما يمكن أن تحيل إلى البلاهة في صياغة المعنى. ولكن إذا شئنا قراءة البيت على أنه بيت في الهجاء والسخرية فسيكون هو الآخر بيتاً مكتفياً بذاته، ويمكن إضافته، بعد ذلك، لكتابي خليفة محمد التليسي وأدونيس المتضمنين شواهد كثيرة عن (قصيدة البيت الواحد).
وكان ابن الأثير، في كتابه المثل السائر، وفي أثناء كلامه عن بيت أبي تمام يقول: «وما أعلم ما كانت حاله عند نظم هذا البيت».