حسين العبدالله
قَبل أنْ نوغل في الإشكالية القائمة للمنهج في النقد العربي الحديث، لا بدَّ أولاً أنْ نسأل: مَا الغاية من وجود مَنهج؟ إنَّ الغاية والهدف من وجود مَنهج ما لا إثبات المنهج نفسه والتعريف بِه وإظهار أدواته ونفوذهُ، بل الغاية هي عملية بَحتة، أي بمعنى كيف يمكن أن نقدم فِهماً صحيحاً للنص بوساطة المنهج لا أن نُقدِمَ فِهماً للمنهج بواسطة النص، وهل يا ترى ينتظرُ القارئ النَص أم المنهج؟ وما الذي استدعى مَن؟ الحاجة لفهم النص أم المنهج؟
كُل هَذه التساؤلات، قَد يطرحها أيَّ ناقدٍ يعمل في هذا المجال ويشتغل بِه، فليس من المنطق أنْ يعمل الناقد على إثبات المنهج على حساب النَص، وهو بهذا الإجراء يذبحُ النَص الإبداعي ويريق دَمه، وحتى زَمنيّاً أنتَ أمام إشكالية كبيرة، وهي أنّك تقتل النص الذي هو أسبق من كل النظريات التي جاءت بالأساس لتناقش وتحلل هذا المخلوق
النوعي الإعجازي الذي يدعى النَص، فتقصيهِ حتى الموت، لتقتل الفن
وبسكينٍ عمياء، إذنْ فأول إشكالية حقيقية يمكن أنْ نثبتها، هي سذاجة الاستعمال النقدي، التي أودت بالنقد العربي، وجعلته يدور في خانة واحدة، خانة التنظير.
عَن التنظير مثلاً: يقدم النقد العربي نماذج في التنظير تُعنى بالمناهج، وتشرح وتفصل، لكنّ هذا التنظير يقع في مشكلة التأثر بالآخر أيضا، فأنت أمام حقيقة مرّة أخرى هي أنَّ التنظير العربي يكاد يكون رؤى غربية تتخفى وراء عباءة اللغة، وأنّ هذه النظريات لم تجرؤ على إعادة هيكلة المناهج بعد تفكيكها وبث روح الثقافة العربية فيها، فليس من المنطقي أنْ تتبنى منهجاً كاملا وتنظر فيه في ضوء ثقافته وبيئته ومجتمعه، هاملاً ثقافتك وبيئتك ومجتمعك وطبيعة حياتك، فالتنظير أيضاً وَقعَ في إشكالية ازدواجية هي البُعد العام للمنهج البعد الثقافي والحضاري، فهذا التبني الحرفي شكّلَ بداية الأزمة النقدية العربية، ولم يُعر النُقاد أهميةً، للوعي بالمنهج وأنّه ليس بالضرورة أنْ ينجح كل منهج غربي
في مجتمع شرقي، فليس من الممكن مثلاً أنْ تقدم التصورات التي يمنحها المنهج التَفكيكي في مجتمعاتنا العربية، التي تكرست فيها أيديولوجية
الزعامات، والمقدس الثقافي والسياسي والديني وحتى الاجتماعي، فهذه السلّم الطبقي، لا يمكن أنْ يرضخ لمنهجية
التفكك في تقويض المألوف وهدم المركزيات.
كذلك نَحن أمام إشكالية أكبر تتعلق بالنقد العربي نفسه، كيف ممكن للناقد أنْ يقدم تصوراً دقيقاً وهو مؤطر بأيديولوجيات شخصية؟ بمعنى أكثر وضوحاً، إنَّ الناقد العَربي محاط بأفكار وترسبات ثقافية وعقائدية.. هذه الترسبات تسهم مساهمة فعّالة في اختيار المنهج، فهل من المعقول أنْ يقوم ناقد صاحب رؤى دينية متعصبة باستعمال المنهج التَفكيكي؟ فواحدة من إشكاليّات استعمال المنهج النقدي، هي: أنَّ الناقد يقف خلف أيديولوجيّته ويرفض أنْ يتقدم عليها أو أنْ يتنازل عنها أمام النص، وهذا ما يجعل من بضاعته النقدية بضاعة كاسدة غير علمية ودقيقة، لأنّها لم تتح للنص حريّة تبني المنهج بل العكس تماماً.
لمْ يُقدم لنا الناقد العربي تصوراته، بل أخذ يتأثر بما ينتجه الآخر ويتبنى، حتى على مستوى المصطلح النقدي، الذي صار يشكل عائقاً وحاجزاً بين النص والمتلقي، لأسباب تتعلق بالترجمة وأسباب أخرى تتعلق بالفهم وأسباب تتعلّق بالتطبيق، تطبيق هذا المصطلح في الواقع, في النص, في الحياة بشكل
عام.
ومن الواضح أنّ هذه الأزمة ليست أزمة فهم وتطبيق، بل هي أزمة ثقافية عامة، أزمة مجتمع، أزمة حضارة، تلقي بظلالها في حقل النقد، بين مجتمع غربي خارج أفق المقدس والمركزية، ساعياً لتحرير الرأي النقدي من التزاماته الاخلاقية والعرفية والدينية, منشغلاً بما يحققه من تأثير, وما في النص من دلالات, ومجتمع شرقي لم ينأ بنفسه ليتخلص من أبسط عاداته الموروثة، بدءاً من القبيلة مثلاً وقلق القيادة، وخوف اتخاذ القرار وصولاً لقيود أقوى راسخة.
كذلك يقف النقد العربي وقفة متواضعة في مناقشة الآراء النقديَّة والكتابات النَقديّة، وهذه أهم وأخطر الاشكاليّات المتجذرة في النقد العربي، إذ لم يقف النقد العربي وقفة جادة، ولم يقدم نماذجَ نَقديّة تُناقش وتفسر وتقوّم التنظير نَقديّ وأدواته وإجراءاته التي يمارسها على النصوص، ولماذا استعمل هذا المنهج ورفض هذا المنهج؟، وما هي الحجج والدلائل العالميّة التي دعته للتحليل والكشف والتفسير والإجراء بهذه الطريقة والمنهجية، لم يكن النقد العربي واعياً، لهذا الشأن، فبالكاد تجد تحقيقات وكشوفات تتطرق لنقد الإجراء النقدي في النقد العربي المعاصر، بل الثقافة النقدية العربية صارت معتادة على استقبال الأشياء بقوالبها من دون النظر فيها ومناقشتها ومحاولة تشكيلها.