الرحيل هو ما لا يتركه المنفى

ثقافة 2020/12/06
...

علي حسن الفواز
 
ما بين حياة الكاتب وموته ثمة اسئلة طويلة، قد  تكون فاجعة، أو قد تكون مرثاة، أو قد تكون محاولات في البحث عن اشياء غائبة، أو اشياء تحتاج الى الوضوح، واحسب أن سيرة الراحل الناقد طرّاد الكبيسي تحمل معها مفارقة تلك الثنائية اسئلتها الحميمة، أسئلة المثقف النقدي، والمثقف الحالم، والمثقف الذي يرتدي كثيرا من المعاطف لكي لا يرى عري العالم.
ادرك الكبيسي مبكرا أن المثقف النقدي كائن متورط، وأن ورطته لا تعني له اشتباكا عائما مع المعرفة، بل مع التاريخ والسلطة والخوف والذاكرة ايضا، وهذا الاشتباك صعب وليس بريئا، ولا حتى صالحا للتداول السهل، بقدر ما يظل باعثا على الاستثارة دائما، وعلى وضع المثقف نفسه أمام عالم متغير وصعب، ومسكون بالاشباح، لاسيما تلك التي تصنعها السلطة، أي سلطة، والتي سرعان ما تتحول الى اشباح للرعب والقهر والاستبداد، ولوضع الوعي تحت مجسات الرقابة.
الناقد الذي ادركه الكبيسي جعل من لعبة الشعر ميدانه الأثير، إذ يختصر الشعر ذاكرة الحكي واللغة والتاريخ والاسطورة، مثلما اعطاه امتياز المُفكّر في سيرة القصيدة، حتى بدا جيل النقّاد في الستينيات ومابعدها وكأنهم « اصحاب العربات» فهم يعرفون اسرار الطريق، ووجوه العابرين، وطبيعة الاسئلة التي تستكنه حاجات المعرفة، وادوات النقد وهواجس البحث عن المعنى، فمنذ أن كتب «شجر الغابة الحجري» ونحن ننظر اليه بوصفه كتابا للتعلّم، وللمعرفة، لاسيما في درسه لشعراء اسسوا الملامح الصاخبة لما يسمى بالحداثة الشعرية، حيث الحرية، والتجاوز، وحيث اللغة وهي تمارس وظائف كاشفة عن «الانساق الخبيئة» للانسان، الانسان الثقافي او الايديولوجي او الثوري او التاريخي، وهذه صفات واقنعة، ورهانات لم تعد آمنة، أو يسيرة في عالم  يحاصره الاقوياء من الجهات الخمس، بما فيها «جهة الوجد» تلك التي ترى الوجود بوصفه كينونة خالصة، وأن خرقها وحصارها يعني تقويض « حيازاتها» العميقة، ومنها حيازة التفكير وحرية النقد وخيار البحث عن السؤال الانطولوجي.
كتب الكبيسي عن «الغابة والفصول» و في « الشعرية العربية» و«مدخل الى النقد الأدبي» و«ارتحالات الشعر في الزمان والمكان» و«سفر الالباء في الشعر العربي» وغيرها، ليؤسس لنا فضاء نقديا حقيقيا، قد يراه البعض غير «أكاديمي» بالمعنى التوصيفي، لكنه كان فاعلا وتجريبيا واجرائيا، حتى على مستوى الدرس النقدي، وعلى مقاربة اشكاليات التحول العاصفة في « هوية» القصيدة وتاريخ منجزها، وفي النظر الى تقاناتها الجديدة..
 
الرحيل والمنفى
رحيل الكبيسي في المنفى يتركنا عند اسئلة وجودية وثقافية فاجعة وقاسية، فما معنى أن يصير المنفى عزلة وموتا؟ وما معنى أن يتحول المنفى الى « قطيعة» بدلالتها الانسانية وليس بتوصيفها المعرفي، إذ يشبه المنفى القبرة؟
وما معنى أن تبدو نصوص المنفى ضيقة، تبحث عن سعة الرؤيا، حيث يلوذ الكاتب بفخاخ التاريخ والتعويض، بحثا عن الشغف والذكرى؟
أسئلة بامتياز الوجع والفقد، مثلما هي اسئلة تتعالق مع محنٍ وخرابات وجودية تمسّ ما تساقط من مراثي السياسة والحرب والخوف والحصار والطرد، والبحث عن اطمئنانات لم تعد اللغة قادرة على حيازتها، وحيث يبحث المثقف العراقي عن « الشغف» الغائب، وعن البلاد التي تحارب، والذاكرة المغلولة للمحو.
ما بين منفى الكبيسي ورحيله تبدو الصورة غائمة، إذ يستدعي الوضوح مقاربة بمستوى القراءة، أو بمستوى الحفر في ارضٍ صلّدتها الحرب، وما عاد هناك من يلمس طراوة المكان، أو يساكن بوحا ينفر مثل اعتراف عاشق، فالكتابة تحت هذه النقائض تتحول الى لعبة مضادة، أو تفكير يتشهى الصخب، أو رغبة لاصطياد المعرفة، ورؤية العالم وهو يتغيّر ويتحوّل وينزع عنه اقنعة الرماد.
كتب الكبيسي كثيرا لأنه كان يكره الصمت، فالصمت في عالمنا خيارا غير آمن، مقابل أن الكتابة تلويح بالوجود، والحضور، لكي تعاند الغياب والنسيان والفراغ، ولكي تتحول إثارة السؤال النقدي- في سياقها- الى ما يشبه الاستفزاز، والطرق الحاد على سطوح الغياب، والسلطة التي تقف وراءه، بما فيها سلطة الكتابة ذاتها.
الكتابة عند الكبيسي همٌّ وجودي، ومسؤولية نقدية، فبقدر تحولها الى مشغل معرفي، فإنها كانت مجالا للتجريب ولاعادة النظر بالاشياء المهملة، بما فيها المهمل من التاريخ، فكتب باحثا ومشاغبا وقارئا استثنائيا، مثلما كتب بوصفها ناقدا له مجساته، وادواته وخرائطه ومكتبته، إذ سعى أن يصنع من خلال ثنائية الكتابة والقراءة حياة أخرى، أكثر صلاحية، وأكثر تطهيرا وشجاعة، واكثر تعبيرا عن المستقبل، وبعيدا عن فجائع الخوف والضعة والقهر والظلم، تلك التي عشناها منذ عقود طويلة لتنتهي عند فجائع مفتوحة وعند منافٍ تشبه المقابر تماما.