ما نكتبه أهم بكثير مما نقوله

ثقافة 2020/12/06
...

ابتهال بليبل
 
(أما في زيارتي الأخيرة فقد حملني (جنازتي)، وقال لي: مبروك موتك!).
لابد أن من يقرأ هذه العبارة،التي تعود للناقد الراحل طراد الكبيسي يستطيع تصويرالمشهد، لابد أن خاطراً سيمر لم يكن على باله من قبل إنه بعد انتهاء الزيارة يغلق الباب ويستدير وحيداً، بالطبع ما زلت أريد حتى اللحظة أن أعرف تفاصيل ما بعد إغلاق الباب،لكن خيالي توقف مع انتهاء العبارة، حتى بدا لي المشهد أكثر وحشة من الموت نفسه.
هذا هو المشهد الذي يشبه الفنتازيا، إنه جزء من خيالاتنا وأحاديثنا المتكررة عن الموت، وكأنه يوهمك بتلاشي الجغرافيا ويجعلك في مكانين متجاورين وبجسد واحد، 
كأن ما نكتبه أهم بكثير مما نقولهحقيقة، إنها رغبة غير مفهومة في كتابة لحظات لا ندرك حقيقة وجودها في حيوات هنا أو أخرى هناك.
وفرت لي هذه العبارة مساحة للتفكير والعودة إلى ذلك الكم المتميز من كتب ومقالات الراحل الناقد طراد الكبيسي، الذي يعد من الأصوات النقدية الفاعلة في الأدب العراقي، ومن مؤيدي الحداثة ولكن الحداثة النابعة من التراث، خاصة في الشعر.
شدني مقال له بعنوان «الشعر العربي الجديد، ممكناً» المنشورة في مجلة الآداب 
عام 1973.
حيث يدافع فيه الكبيسي، عن لوتريامون وهو اللقب الذي كان يكتب باسمه الشاعر الفرنسي ايزيدور دوكا شاعر فرنسيعندما قال مخاطبا الشعراء،» كتابتكم الشعر ليست سبباً معقولاً، لتنفصلوا عن سائر البشر»، كما ويتبنى في الوقت نفسه فكرة (أن الشاعر ما هو إلا واحد 
من الفقراء وأبناء الطبقات الكادحة، فلم يمنحه الشعر، امتياز 
الانفصال عنهم، بل العكس هو الصحيح).
فيكتب: «أن الأسباب التي تجمع بين الشاعر وأبناء الطبقات الكادحة، والمثقفة، أسباب عقائدية وطبقية»، لأنه يحمل حلم الجماهير الكادحة، في خلق مستقبل للإنسان، أجمل. 
يعود الكبيسي بالشعر إلى الطبقة البرجوازية ويضرب 
المثل على النظرة التقليدية القديمة، ويستخدم الزعم القائل بأن الشاعر كائن مختلف 
في مادته ومطامحه عن البشر الآخرين، كما يعكس 
بحث البرجوازية عن أسباب الوقوف ضد العالم، وبالتالي الوقوف ضد القوى 
الصاعدة التي تدفع بحركة التاريخ.
إذ أصبح من المألوف أن البرجوازية، إن لم تستطع توظيف الأدب لمصلحتها، فإنها تبتدع له الأسباب والمبررات لأن يتخلى عن مواجهتها أي «تحييده» على الأقل (لئلا ينحاز إلى جانب الفئات والطبقات الكادحة التي تستغلها.
ولكن هذا ليس كافياً بالنسبة للمألوف عن البرجوازية، وكيف أن لم تستطع توظيف الأدب لمصلحتها، فإنها تبتدع له الأسباب والمبررات لأن يتخلى عن مواجهتها أي «تحييده» على الأقل (لئلا ينحاز إلى جانب الفئات والطبقات الكادحة التي تستغلها)، هنا يرجع الكبيسي إلى مشكلة شعرنا المعاصر، ولدى معظم شعرائنا، والتي على حد قوله لا تمكن في البحث عن الاتجاه الاجتماعي الثوري، فهم يلتقون في معظمهم، مع الجماهير في مطامحها. 
إنما المشكلة تكمن في الوعي المعمق بهذا الاتجاه. 
وفي الفصل بين الاتجاه الاجتماعي والاتجاه الفني، إي أن ثمة طموحاً إلى التجديد في الشكل لا يوازيه الطموح إلى تعزيز الوعي بالاتجاه الاجتماعي، ولهذا فإننا كثيراً ما نقرأ قصائد لا نخرج منها، إلا بإحساس 
واحد، هو أنها تصدر عن تجريبية شكلية لا غير.
يركز الكبيسي على هذه المشكلة ويعدها 
واحدة من المشكلات، التي تعوق وصول الشعر الجديد إلى جمهوره، وتضعف 
فعاليته.