في الانشغال السياسي الذي يدفع الجميع لترميم البيوت الصغيرة داخل البيت العراقي، البيت الشيعي والسني والكردي، وفيما تستعد حتى الأقليات لذلك، بإنتاج سردياتها الفئوية التي تمنح طاقةً أكبر في التنافس الانتخابي، يحضرُ بذهني وجه “دودو” الحزين، الجالس بشكل هادئ على كرسيّه، وهو أوّل كاتب في البشريّة، عراقي!
من الغريب أن يكون هذا الإرث العراقي العجيب متوفراً في كل تفصيلة، وله سردية كاملة تماماً، واحتفاء عالميّ جاهز، بينما لا يعرفُ كثيرون منا ما معنى أن يكون المرء ضمن “العراق القديم”، وما يمثّله، من حداثة في الحكم، وثقافة، وغيرها، ربما تمتاز على أشياء كثيرة في لحظة 2020، فنظامُ المجاري لأور القديمة، حتى اللحظة لا يطفح في المدينة الأثرية، بينما النظام نفسه الذي صنعه أبناء القرن العشرين، يفيض وتصبح المدن فينيسيا دون جمال
الأخيرة!
تحتاج إلى رؤية صورة للإهرامات، حتى تشتغل المقدمة الموسيقية لأغنية “الكرنك” في ذهنك، حيث صنع عبد الوهاب مخيالها السينمائيّ، وما إن نذكر الإهرامات حتى ترتسم في ذهنك بشكل مباشر، لكن “الزقورة” ستكون لدى كثيرين صورة غائمة، وكذا الحال مع قلعة الشرقاط، أو الجنائن المعلقة.
لقد أضعنا منظومة جاهزة، استثمرها حتى الدكتاتور في حربه ضد إيران، هذه المنظومة التي كانت كفيلة بجمع الأفراد العراقيين تحت يافطتها، لأن سرديتها خالية من كل مفهوم انشقاقي في اللحظة الحالية، وهي موزعة بشكل حضاري عادل بين جميع المحافظات، هذه المنظومة التي لم يكن للسلطة إلّا قليل من الجهد لتكون البروباغاندا الوطنية، ذهبت أدراج الرياح، ولا يستعيدها إلّا عراقيّ هنا أو هناك، بوصفها صور آثار جميلة،
فقط!
كان يمكن لدودو أن يكون الرمز العراقي الأهم، أو عشتار، أو كَلكَامش وصديقه أنكيدو، أو تموز، لكن كل شيء أراد بعد 2003 أن يعود العراقيّ شيعياً وسنياً وكردياً، أن يعود تركمانياً ومسلماً ومسيحياً، وهذه المنظومات، رغم وجود أشياء إيجابية عديدة فيها، إلّا أنها تحمل بذاتها نبرة الاحتداد، والاحتكاك مع الآخر.
كان يمكن أن يحج العراقيون إلى المتحف الوطني، الذي لا يخشّن خاطر أحد، لكننا تركنا “دودو” يتيماً، بجلسته الهادئة ووجهه الحزين، ببيت عراقيّ متهالك، وركض الجميع لترميم بيوت صغيرة داخل هذا البيت!