النسق الدفاعي وتحريم الحداثة

ثقافة 2019/01/25
...

د. كريم شغيدل
 كيف يمكن أن نرسم خريطة للحياة الثقافية التي كانت سائدة في العراق أواخر الأربعينيات، هل كانت هناك ملامح لدولة مؤسساتية حديثة بدأت تتضح؟، نرى أنّه على مستوى ما كانت تلك الحقبة حقبة اختبار ثقافي للمجتمع العراقي، فقد اتسع خلالها المد اليساري الاشتراكي وصارت له صفحة نضالية ساخنة، لا سيما بعد إعدام مؤسس الحزب الشيوعي (يوسف سلمان يوسف) الملقب (فهد) وعدد من رفاقه، ونضجت خلالها فكرة القومية العربية وصار للمد القومي سجله، بعد انقلاب مايس 1941م، على أنَّ سمة النضال الأيديولوجي مرتبطة في ثقافتنا بالتضحيات جراء الوقوف بوجه السلطة، خلال ذلك كان العالم بين لاعق لجراحات الحرب الكونية الثانية ومحتفلٍ بالانتصار على النازية، وبين واقع تحت هيمنة الانتداب والاتفاقات الدولية وبين مكافح من أجل
 الاستقلال.
 
 تحدٍّ حضاري
على مستوى آخر بدأت تأثيرات ثقافة المستعمر الغربي تنضج داخل حركة المجتمع العراقي، أحزاباً، صحافة، تعليماً، بعثات، منظمات مجتمع مدني، منتديات، أماكن لهو، مع اتساع واضح لطبقة (الأفنديّة) الاسم التركي لما يمكن أن نسميه بالطبقة الوسطى، وراحت (السدارة الفيصليّة) تطغى على  بقية أغطية الرأس، لا سيما في الحواضر ومراكز المدن، وبالأخص العاصمة بغداد، في تلك الأثناء أيضاً بدأ التحدي الحضاري الأكبر بالنسبة لعموم العرب، عندما فشلت الجيوش العربية بالحيلولة دون احتلال فلسطين، ومن ثمَّ اعتراف عصبة الأمم بالدولة العبريّة. كان الصهاينة يستمدون مشروعيتهم من التاريخ التوراتي لأرض الميعاد، فراح العرب ينبشون في كتب التاريخ والفقه عمّا يفنّد فكرة الصهاينة من دون جدوى، وعندما وظّف الصهاينة مقولة (شعب الله المختار) سعى العرب لتوظيف مقولة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) المستمدة من القرآن الكريم، ومن هنا بدأت التوظيفات الثقافية تسود الثقافة العربية عموماً وبدأت تنشط الدراسات السامية لتتحوّل إلى اختصاص في العديد من المعاهد والجامعات العالمية فبرزت مقولة (معاداة السامية) بصفة معادلة عرقية معيارية ينظر من خلالها الصهاينة ومن ورائهم الغرب للآخرين بمعيار الاعتراف أو العداء لدولة إسرائيل، كل هذه التحولات جعلت – كما نعتقد- الثقافة العربية تتخذ نسقاً دفاعياً، تشكيكياً، فهذه القضية مثلاً مصدرها الاستشراق، وتلك نزعة ماسونية، وتلك أفكار تسمم العقول.. إلخ، الأمر الذي جعل النظر إلى أي نوع من أنواع التجديد على أنه تأثير غربي لمسخ هوية الأمة، لكنَّ المدَّ الحضاري كان أقوى من دفاعات الثقافة، فقد شهدت الحقبة تأسيس أول إذاعة عربية في بغداد، فكانت الأنباء المبثوثة عبر جهاز (الراديو) بشأن تصاعد أعداد ضحايا وباء الكوليرا في مصر، قد شكّلت مؤثراً مباشراً لكتابة أول قصيدة حرة تكتبها (نازك الملائكة) كما روت بنفسها، كما شهدت الحقبة اتساع نطاق الاتصال بالغرب عبر الترجمة وتعلم اللغات الأجنبية وعودة بعض الاختصاصيين من بعثات الخارج والبداية العلمية الجادة للعلوم الاجتماعية التي أنتجت في العراق مثلاً فكراً اجتماعياً كاد يتحوّل على يد العلامة الوردي إلى ثقافة شعبية (جماهيرية) بسبب مواجهاته المعرفية للثقافة السائدة، من جانب آخر تصاعد معدل الهجرة من الريف إلى المدينة، لا سيما العاصمة، ما أَذِنَ بنشأة طبقة هامشية باحثة عن منافذ لترييف المدن، في خضم هذا كانت هناك طبقة ضئيلة من برجوازية الريف بدأت تتسلل للمدن عن طريق التعليم وكان (بدر شاكر السيّاب) واحداً من تلك الطبقة، كان هناك أيضاً تراجع للظاهرة الدينية في المدن، إذ بدأت تنحسر لأسباب عديدة منها: موقف حكومات الانتداب المعادي للمؤسسة الدينية، بسبب موقفها من الاستعمار إبّان حقبة ما قبل الاستقلال. وبناء دولة الاستقلال على أساس مبدأ الفصل بين الدين والدولة. واتساع نطاق المجتمع المدني. وتحول الرهان السياسي من المؤسسة الدينية إلى مؤسسات الفكر السياسي العلماني. 
 
المؤسسة الدينية
وهذا لا يعني أنَّ المؤسسة الدينية لم تعد حاضرة أو مؤثرة، وإنما تراجعت بوصفها خياراً سياسياً بعد هيمنة الأحزاب العلمانية بوصفها خيارات سياسية بديلة كانت تعوّل على الخيار العسكري الذي استقطب أيضاً بعض الخيارات الدينية. وهذا الأمر أفضى إلى شيء من التحرر من ذهنية التحريم وهيمنة المقدس، ومن ثمَّ التحرر من الرقيب الأخلاقي والمعياري على الفن والأدب، فبعض الفقهاء، مثلاً يحرمون التمثيل والرسم بوصفهما تجسيداً كما يحرّمون بعض الشعر، والمدارس الأصولية عموماً لها مواقف متشددة ضد أي تغيير يطرأ على الشعر العربي التقليدي بوصفه مرجعاً نحوياً ولغوياً ظهيراً لعلوم التفسير والفقه، ويكون الموقف أشد بأزاء اللغة، وللأصولية تأويلاتها للتمسّك بكل سلفي ومناهضة أي تجديد إذ تسقط نظرتها الدينية بتأويلات أخلاقية على حقول معرفية وثقافية مختلفة، فتارةً تحرّم الفلسفة والرياضيات وأخرى تحرّم تدريس الجغرافية وتعلّم اللغات وثالثة تحرّم الحداثة وتمنع تداول المفردة إعلامياً كما حدث في السعودية منتصف الثمانينيات من القرن 
المنصرم.