محمد كريم الخاقاني*
من الثابت بإن السياسة الخارجية الاميركية تتحدد بمؤسسات وليس بأشخاص، فكلا الحزبين الرئيسين لديهما مواقف ثابتة إزاء السياسة الخارجية الاميركية، فلكل من الحزب الديمقراطي والجمهوري اهداف وفلسفة ثابتة تجاه الأمن القومي، وفي حالة حدوث اي تغير في مواقف اي منهما حيال اي مسألة من مسائل السياسة الخارجية َذات الصلة بأمن الولايات المتحدة الاميركية، فهي ستكون تغيرات طفيفة ولا تمس جوهر الأمن القومي بشكل عام، لذا فإن تغيير الأشخاص في قمة الهرم الرئاسي لا يعني بالضرورة تغييرا في الثوابت المعروفة في الأمن القومي الاميركي، إذ سيكون التغيير الملحوظ في الامور الثانوية التي تفرضها التطورات الدولية وما تستبعه من تطورات على الأمن القومي الاميركي والمصالح العليا للولايات المتحدة الاميركية.
وتتميز الأهداف في السياسة الخارجية الاميركية بالثبات والاستقرار ولا تخضع للتغيير بتغيير الرؤساء، فالتغيير يحدث فقط في الوسائل وآليات التنفيذ لتلك الأهداف وذلك في إطار تعاملها مع الملفات المتعددة في سياساتها الخارجية مع دول العالم، ويمكن ملاحظة ذلك الأمر وعلى مدى عقود طويلة، إذ شهدت السياسة الخارجية الاميركية تغيرات عدة في وسائلها المتبعة في تحقيق اهدافها الثابتة، من دون تغيير جوهر مصالحها العليا، فعملية صنع السياسات تستند الى تلك الثوابت من القواعد والأعراف المتجذرة في التوجهات العامة للمجتمع الاميركي والتي تؤدي دوراً محورياً في التأثير على مسارات توجيه سياسات الولايات المتحدة الاميركية، وتحرص كل إدارة جديدة على الاستجابة لتلك التوجهات وعدم تجاوزها وصولاً لتحقيق الأهداف العليا للدولة.
وعلى مدى سنوات طويلة، شهدت حركة السياسة الخارجية الاميركية استخدام وسائل شتى لتحقيق الأهداف الثابتة المرتبطة بالمصالح العليا، فالأهداف التي تسعى لتحقيقها ليست جامدة، بل تتسم بالحركية وقدرتها على التفاعل مع ما يستجد من تطورات في البيئة الدولية وتأثيراتها المتوقعة في البيئة الداخلية، فهذه المتغيرات بالتأكيد سواء كانت بشكل إيجابي ام سلبي، تلاقي تفاعلاً وتجاوباً من صناع القرار الاميركي.
وعلى هذا الاساس، فإن إدارة جو بايدن الرئيس المنتخب ستعمل على إعادة ترتيب اولويات السياسة الخارجية الاميركية، بعد سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب، ومعالجة الملفات التي تعتقد بأهميتها بالنسبة للأمن القومي الاميركي كملف البرنامج النووي الإيراني والذي يُعرف بإتفاق٥ +١ وذلك بعد إنسحاب الولايات المتحدة منه وتشديد العقوبات الإقتصادية على إيران بشكل منفرد، فمن المعطيات المتوافرة، قد تلجأ إدارة بايدن الى إعادة الروح للاتفاق النووي مع إيران بتغييرات طفيفة تكون ملائمة لكل الطرفين، وهذا ما تعمل إسرائيل على عدم حدوثه، إذ تسعى وبكل ثقلها في اواخر ايام رئاسة ترامب الى توجيه ضربة استباقية محددة بأهداف منتقاة داخل إيران، تعتقد بأنها منشآت تخص البرنامج النوَي الإيراني، حيث سمح الإنسحاب الاميركي منه الى تواصل العمل به من قبل الإيرانيين بعيداً عن الرقابة الدولية، وبالتالي تعتقد إسرائيل بأن ذلك مدعاة لتطور النشاط النووي وتأثيراته على عموم المنطقة والمصالح الاميركية فيها، ومن هنا نجد بأن حادثة اغتيال مهندس البرنامج النووي الإيراني فخري زادة تندرج ضمن تلك المحاولات الإسرائيلية بهذا الاتجاه، وهو ما يستدعي جر إيران لشن هجمات في المنطقة، رداً على تلك العملية بعد عجز حكومة نتنياهو عن دفع الولايات المتحدة الاميركية عن شن حرب عليها وتدمير منشآتها النووية بشكل كامل.
ونعتقد في هذا الصدد بعدم مغامرة إيران لشن هجمات انتقامية، مثلما تسعى اليه إسرائيل وبدفع من الولايات المتحدة الاميركية رداً على إغتيال زادة وبالتالي تفويت الفرصة وإعطاء الذريعة لمهاجمتها في تلك المرحلة الإنتقالية وتسلم إدارة بايدن مقاليد الحكم لأربع سنوات مقبلة.
اما الوضع العراقي ورؤية الإدارة الجديدة لمجريات الأمور فيه، فإن مسألة تواجد القوات الاميركية في العراق تتصدر الأجندة الاميركية كنتيجة لمخرجات الحوار الستراتيجي العراقي الاميركي، إذ سيكون المشهد مغايرا عما كان عليه في عهد ترامب، فالولايات المتحدة تسعى لتقليص عدد قواتها وتمركزهم في القواعد العسكرية في قاعدتي حرير والأسد، بدلاً من الإنسحاب كاملاً على غرار ما حدث في عام ٢٠١١ وما تسبب في قيام عصابات داعش الإرهابية في عام ٢٠١٤ واحتلاله لمساحات كبيرة في العراق وسوريا، وهذا يعني استمرار الستراتيجية الاميركية وبآليات ووسائل جديدة مختلفة عما كانت عليه في عهد ترامب.
لذا نعتقد بأن إدارة بايدن ستكون امام مهمة ترميم الملفات وترتيب اولوياتها في المنطقة، إذ سيشكل الملف الإيراني اهمية قصوى بالنسبة لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار تداعيات الانسحاب الاميركي الاحادي الجانب من الإتفاق النووي، وتحديد الستراتيجية المقبلة للتعامل مع القضية العراقية، وفقاً لتطورات الوضع فيه منذ تشرين الأول ٢٠١٩ وما اسفرت عنه من تداعيات تمثلت بإستقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي، وصولاً لتشكيل حكومة السيد مصطفى الكاظمي في آيار ٢٠٢٠.
*اكاديمي وباحث في الشأن السياسي