الطبيعة والثقافة

ثقافة 2020/12/12
...

ناجح المعموري
 
تتحفز الطاقة الجنسية لدى الانسان/ البدائي الذي تعايش مع الحيوانات وكان يرى تفاصيل حياتها اليومية، وهي تفاصيل سردية متميزة بشعرية ممنوحة من لحظة التعرف على ما يجري وسط مساحات واسعة وشاسعة حتى ظلت العلاقة بين الكائن والمحيط متحركة لأن العقل الذي انعكس على الفضاء والعلاقات اليومية المكرسة عبر الاستعمالات اليومية التي حازت صفة المألوف وصار معروفاً.
تكرس عبر معرفة العقل لها وكيف انبثقت وجعلها عبر الوعي بها وسيلة للتعامل مع الافراد والجماعات، واشار العالم ليفي شتراوس في كتابه المهم “مدارات حزينة” الاستثنائي الى الغموض الذي تنطوي عليه الحقائق التي تبلورت واتضحت تدريجياً. حتى بات لا يركن الى وضوح العلم الذي يفتح باباً ويغلق باباً، ويرى في الكون سؤالاً شاسعاً لا يستنفد أبداً.
لذا فإن العودة الى المدونات الفنية والايقونية، والرمزيات نتعرف على ما كان حاضراً وسائداً ونمسك بطباع الافراد والجماعات. وكان التداول بين الطرفين نوعاً من الاكتساب والتعلم يفضي الى التطور. الذي يعنيه حصرياً شتراوس بحقيقة العلم، وهنا تبرز بوقت مبكر في الجهد الانثربولوجي العظيم لشتراوس من ان العقل طاقة خلاقة كبيرة، ويمتاز الفرد في المراحل البدئية بما يميز من كان أسبق بالحضور. ودحض بهذا الرأي مقولة ليفي بريل. 
كان جهد ليفي شتراوس متميزاً ومثيراً، وأسس عبره وبالنتائج التي توصل اليها أنموذجاً في الدرس الانثربولوجي بحيث أثار إعجاب وانبهار العديد من المتخصصين وغيرهم مثل جورج باتاي وموريس بلانشو وريمون آرون. 
وهو ما جعل أكاديمية غونكور تتمنى أن يكون الكتاب رواية كي تتوجه له بجائزتها الشهيرة، لأن في الكتاب اختصاصاً وما يفيض على الاختصاص، نظرت اليه الأوساط العلمية بتحفظ محسوب، مدافعة عن «العلم الخالص» المبرأ من روح الشعر واطياف التأمل.
ما وصل إلينا من تعبيرات عديدة قدمت لنا نوعاً من شعرية الثقافة والفن، ورسمت ايضا الحدود التي كان يتأمل فيها الكائن وسط حياة ضاجة بحضور العقل وسيادة الطبيعة ذات الغور والعمق المحافظ على كل ما أنجزه الفرد والجماعات.
الدبيب وراء الحضارة علم صعب ومعقد، يستغرق زمناً طويلاً ومثله فحص المكتشفات وترجمتها، كل هذا جهد علمي حيوي، لا يغفل لاحقاً فحص الفنون التي يتم التعامل معها بوصفها شكلاً كتابياً. ولذا نشأ علم منفرد خاص بتاريخ الفن الشرقي القديم، قدم لنا معلومات مهمة لم نعثر عليها- على سبيل المثال ــ في ملحمة جلجامش وتحولت الاختام والرموز والدلاليات عوامل محفزة للقراءة وكشف المتكتم عليه في الفن وتنوعت الاراء وازاداد التباين فيما بينها.
لكن بالعودة الى الجهد الانثربولوجي سنتعرف على معلومات عاش معها الجهد التسجيلي ودائماً ما تكون الاثنوغرافي مثل هذه الوظيفة أيسر وأسهل بكثير مما تقوم به الجماعات التنقيبية التي ستتوصل الى تداخل بين الثقافات المتجاورة وانتقال الفنون الى مدن متجاورة من خلال قطع منسوخة يتم الوصول اليها لاحقاً.
قال شتراوس: يجب أن تسهر الثقافات التي ترتبط بأسلوب حياة وبنظام قيم على خصوصيتها، وهذا إجراء سليم وغير مقبول في آن.. ذلك أنّ كل ثقافة تتطور بفضل تبادلاتها، مع ثقافات أخرى، لكن ينبغي أن تخلق كل منها مقاومة خاصة بها. وإلا فسرعان ما ستفقد كل شيء يمكن مبادلته. 
إنّ لكل من غياب الاتصال والإفراط فيه خطورة.. يدعو شتراوس الى “حوار الثقافات” كشرط لتطورها، ويدعو الى تخليق المقاومات الثقافية، فالثقافة التي تستسلم لغيرها تنطفئ ثم تندثر، ولعل فكرة التنوع الثقافي هي التي أملت عليه منذ زمن مبكر ان يتحرر من مركزية الثقافية الاوروبية وان يذهب الى ثقافات مغايرة في طريق الانقراض، تعامل معها الاستعمار الاوروبي بادوات القتل والابادة والاجتثاث، كما أكد ذلك ليفي شتراوس في بحثه الرائد «مدارات حزينة».
حضور الافراد والجماعات في الطبيعة، يمنح لها قدرة انتاج الثقافات ودخولها بحوار انساني، سيفضي حتماً للتطور والتمركز بطاقاتها الممتدة بالطبيعة والمتغذية منها، ما يعيننا في دراستنا عن جلجامش حاكم مدينة اوروك وملكها الذي استطاع ارساء مؤسساتها الدينية/ الاقتصادية/ السياسية أدت وبنجاح للانتقال الى الطبيعة حيث الثقافة والفن التي قادها شتراوس وثقف لها. وفعلاً تحقق التحول المهم والخطير في صحراء اوروك وما افضت اليه من تنوعات الصراع والجدل التي كان انكيدو مجالها الحيوي والذي عكسته الفنون من خلال الاختام والألواح والتصاوير؛ لذا لا نجد غرابة في تأمل شتراوس الفنون باسهاب حكيم.
ويرى فيها انجازاً انسانياً لا يضارعه غيره. كان يقول: ان يحذف صدمة عشرة او عشرون قرناً من التاريخ، لا يؤثر فعلياً على معرفتنا بالطبيعة الفنية التي شهدت هذه القرون ولادتها. ولعل اهتمامه بالفنون هو الذي اقام علاقة بينه وبين الشاعر فاليري وغوته وكانت. حيث يلتقي الشعر بالمعرفة والمتخيل بالعلم، وحيث «الغامض» يستقر في المعارف جميعاً. مثلما قال ليفي شتراوس.
معرفة الجسد وادراك وظائفه له تأثير بارز حول الغرائز الاتصالية المفضلة للخصوبة والإنجاب والتكاثر. وكثيراً ما أشرت الدراسات الخاصة بالاجتماع الثقافي من ان الحاجات الجنسية لها حضور قوي قبل الزواج وتؤدي الى اضطراب في سيادة النظام الاجتماعي والمجال السياسي وتأثيرها باتجاه الانحراف سيرورة الطبيعة التي تذهب نحو النمو وتطورها وحيازة طاقة الثقافة وشعرية المعرفة وحيوية التأمل.
إنّ أدب الغزل في بلاد الرافدين الذي جاءنا متكاملاً حيوياً مؤثراً من خلال النصوص المسمارية المدونة باللغتين السومرية والاكدية منذ ما يقارب خمسة آلاف سنة. وكذلك مشاهد الاثارة التي صورتها الفنون المرئية العراقية القديمة. كل هذه الوثائق عرضت لنا المراحل السرية والعلنية، المقدسة والدينوية لخفايا الحب والغزل الجنسي عبر المراحل الحياتية للمرأة والرجل، وهو بذلك يعطينا تصوراً كاملاً عن تلك العلاقة التي تبدأ بالحب وتنتهي بالزواج او بغيره، وبهذا فإن العراقيين القدامى قد عبروا لنا عن تجربة حياتية رائعة في مجال العلاقات الجنسية في ظاهرها ومضمونها واوضحوا للبشرية خلاصة تلك التجارب في القصائد الغزلية المباشرة الرائعة، المشوبة برائحة الحب والعشق والمصورة في مشاهد فنية للعديد من الفنون العراقية القديمة كما قال الاستاذ حكمت بشير الاسود في كتابه المهم «أدب الغزل ومشاهد الاثارة في الحضارة العراقية القديمة» / المدى / دمشق/ 2001/ ص 6/.
الحب هو البداية وهو عنوان كل شيء وكان الحب يجري في العلن او الخفاء وتلتقي الايادي مع بعضها، يد المرأة ويد الرجل يعقبه حديث جذاب ورقيق حديث حب وغرام بين الحبيبين/ ص6.