تجديد مفهوم الثقافة الوطنيّة

آراء 2020/12/13
...

 عطية مسوح 

 
 
مصطلح (الثقافة الوطنيّة) هو أحد ثلاثة مصطلحات مترابطة، دخلت فكرَنا العربيّ الحديث، ومجالَ النقد الأدبيّ والفنّيّ، في أربعينيّات القرن العشرين، وهي: الواقعيّة الاشتراكيّة، والثقافة الوطنيّة والالتزام. وإذا أنعمنا النظر في هذه المصطلحات فسنجد أنّ الواقعيّة الاشتراكيّة مصطلح فكريّ نظريّ، والثقافة الوطنيّة مصطلح سياسيّ، والالتزام موقف شخصيّ . وكثر استخدام مصطلح الثقافة الوطنيّة في أواسط القرن الماضي، حتّى إنّ مجلّة حملت هذا الاسم ظهرت في بيروت عام 1953 ترأس تحريرها المفكّر والناقد الأدبيّ حسين مروّة، واستقطبت أقلاماً شابّة من بلاد الشام والعراق ومصر.
   في البداية عنى مصطلح (الثقافة الوطنيّة) لدى مستخدميه الثقافةَ المناهضة للاستعمار ومشاريعه وثقافته في بلداننا العربيّة، لكنّه اكتسب شيئاً فشيئاً دلالات إضافيّة، فمنظّرو الواقعيّة الاشتراكيّة شحنوه بشحنة طبقيّة، فلم يعد المحتوى الوطنيّ المعادي للاستعمار والإمبرياليّة كافياً لتكتسب الثقافة صفة الوطنيّة، ولا بدّ للنتاج الأدبيّ والفنّيّ من مسحة اشتراكيّة كي يدخل مملكة الوطنيّة. أمّا القوميّون فقد أعطوا هذا المصطلح مضموناً قوميّاً، فغدت الدعوة للوحدة العربيّة الشاملة مضموناً لازماً للثقافة كي تكسب شرف الوطنيّة . ضيّقت هذه الدلالات الإضافيّة فضاء الثقافة الوطنيّة ووضعت الكثير من الإبداعات الوطنيّة خارجها، لكنّ ثمّة تضييقاً آخر أشدّ ضرراً لحق بهذا المصطلح، وهو ناتج عن سعي السلطات العربيّة والمثقّفين التابعين لها إلى ربطه بتوجّهات السلطة، لدرجة إطلاق صفة الوطنيّة على الثقافة المؤيّدة وحجبها عن الثقافة المخالفة أو المعارضة. وواضح أنّ التضييقات الثلاثة المذكورة ناتجة عن إشكاليّة علاقة الثقافة بالسياسة، وتحديداً، عن سعي القادة السياسيين لإخضاع الثقافة للسياسة والأيديولوجيا. 
 ومن الطبيعيّ أن يؤدّي تضييق دلالة مصطلح الثقافة الوطنيّة إلى فهم متشدّد للالتزام، الذي صار قيداً على الأديب والفنان والباحث والمفكّر . أمّا أخطر ما أصاب الثقافة الوطنيّة في زمننا فهو ما يمكن أن نسمّيه (النكوص). فبعد ما حلّ بالمشاريع السياسيّة والفكريّة النهضويّة العربيّة من انكسارات ونكسات وظاهرات فشل، طَفَت على سطح الحركة الثقافيّة نزعة النكوص، وأخذ الكثير من المثقفين يحوّلون أنظارهم إلى الماضي، يستلهمونه ويبحثون فيه عن حلول لمشكلات الحاضر . ويبدو أنّ نهوض ثقافتنا، وإسهامَها في نهوض المجتمعات العربيّة، مرتبطان إلى حدّ شبه حاسم بالخلاص من التضييقات التي ذكرناها، و»إعادة بناء الثقافة الوطنيّة من الأساس، وإعادة تأسيسها لا على ثقافة الإكراه بل على ثقافة الاختلاف» على حدّ تعبير المفكّر الراحل حسن حنفي.
      إنّ ثقافة الاختلاف هي التي تمنح الحركة الثقافيّة الحيويّةَ وتزيد فاعليّتها، فكيف نصل إلى إعادة البناء هذه؟ لعلّنا نستطيع وضع عدد من النقاط الأوّليّة في هذا المجال، تاركين الأمر للنقاش الواسع بين المثقّفين حول ذلك.
1 – توسيع دلالة مصطلح (الثقافة الوطنيّة) ليشمل كلّ ما يعزّز لدى الناس الذوق الجماليّ والمتعة النظيفة.
2 – النظر إلى كلّ ثقافة تناهض التخلّف وتقوّي النزوع الحداثيّ على أنّها ثقافة وطنيّة، سواء أتوافقت مع توجّهات الأحزاب أو الحكومات أم لم تتوافق.
3 – فتح النوافذ أمام  الثقافات العالميّة بكلّ ألوانها، والخلاص من وهم «النقاء الثقافيّ» الذي، تحت عنوانه، تُغلق النوافذ ويُحارب التجديد وتُرفض الحداثة.
4 – تعزيز نزعة الشكّ المعرفيّ في الأوساط الثقافيّة، ولدى الناس ولا سيّما الشباب. فالثقافة الفعّالة هي التي تبثّ في العقول قلقَ الشكّ الذي يولّد التفكير البنّاء، بدلاً من طمأنينة اليقين التي تدفع إلى السكون والتسليم.
5 - ولعلّ الأهمّ، بل الحاضنة التي تضمن ذلك كلّه، هو أن تنطلق الثقافة من مبادئ المواطنة، وأن يوجّه المثقّفون اهتمام الناس إليها، فهي التي تقوّي وحدة المجتمع وتعزّز الانتماء الوطنيّ وتضمن تساوي الناس وعدم التمييز بينهم على أيّ أساس كان.  
    وبطبيعة الحال، فإنّ توسيع إطار الثقافة الوطنيّة على النحو الذي ذكرناه سيؤدّي إلى رحابة النظرة إلى الالتزام. فلأنّ الالتزام خيار ذاتيّ، فإنّ الأديب أو الفنّان هو من يحدّد ما يلتزمه، وفق رؤاه وقناعاته. ولقد بيّنت التجارب الثقافيّة في القرن العشرين أنّ الأفضل للثقافة والمثقّف، أن يقتصر الالتزام على القيم الوطنيّة والإنسانيّة الكبرى، من دون التوافق مع الأهداف التفصيليّة أو الممارسات التكتيكيّة لأيّ من التيارات السياسيّة أو التوجّهات السلطويّة.ولعلّ المفكّر والأديب النهضويّ الكبير رئيف خوري قد أكّد هذه الفكرة تأكيداً غير مباشر حين صدّر كتابه الشهير (الفكر العربيّ الحديث وأثر الثورة الفرنسيّة في توجيهه) بمجموعة من أقوال المفكّرين العالميين، بينها هذه العبارة لغوته : «ما معنى أن يكون الإنسان وطنيّاً؟ إذا كان الشاعر منصرفاً إلى محاربة التعصّب، وإزالة النظرات الضيّقة، وإنارة ذهن قومه، وتصفية ذوقهم، وترقية آرائهم  وأفكارهم، فقولوا كيف يمكن أن يكون وطنيّاً على وجه أفضل من هذا الوجه».
 
باحث  وكاتب من سوريا